تراجيديا حرب الغرائز
أحياناً تتحول الكلمة إلي سيف مسموم، قاتل، وخفي. وبينما تحاول أن تدافع عن نفسك مستخدماً نفس السلاح، تقتل نفسك.
ويستخدم الناس هذا السلاح الخطير -الكلمة- بحرفية عالية، ويقتلون أنفسهم والآخرين معاً، ولا شك أنها عملية إنتحارية غبية، لكن العذر الوحيد لهؤلاء المساكين هو أنهم لا يدركون ما يفعلون.
إننا جميعاً نخوض هذا الصراع طوال الوقت وغير مدركين لأسبابه لأنها أسباب خفية وكذلك غير مدركين للأسلحة التي نستخدمها في هذا الصراع لأنها أيضاً أسلحة خفية. ودائماً ما نجرح أنفسنا عندما نجرح الآخرين، ودائماً ما نجرح أقرب الناس إلينا بدون قصد منّا وبدون إدراك لذلك، ونخوض هذا الصراع في ظلام تام، فلا نعرف الأسباب التي دفعتنا إليه ولا نرى الأسلحة التي نستخدمها، ونشعر بالألم ولكن دون أن نرى الجرح.
وليس أخطر علي الفارس في أرض المعركة من الظلام، عندما لا تري خصمك ولا تعرف سيفك ولا ترى جراحك التي تنزف حتي تعالجها، ولا شك ان أغلب الضربات التي تجرحك ستأتي من سيفك لأنك ببساطة لا تعرفه ولم تتدرب عليه.
فما هي تلك الحرب الخفية؟، وما هذا الصراع الذي نخوضه طوال الوقت ولا نعرفه؟، ومن الذي يشن الحرب علينا؟، ولماذا؟، وأين تذهب قوتنا عندما نشعر بالضعف؟، ولماذا نحن خاملين في التقدم علي طريق نجاحنا الذي قد نعرفه جيداً لكننا لا نتقدم فيه إلا قليلاً؟.
إنها حرب الغرائز الإنسانية الأساسية، بمعني أن الغرائز الأساسية التي توجه الإنسان في كل أمر من أمور حياته هي التي تدفعه إلي تلك الحرب دون أن يدري معتبرةً أنها معركة الإنسان الضارية من أجل البقاء، وهذه الغرائز لا تعقل ولا تفرق بين الغريب والقريب ويمكنها أن تدفعك بدون وعي منك إلي الإنتقام من أقرب الناس إليك وحتى من أبنائك.
وإذا قمنا بالدخول إلي هذا المجال اللاواعي وراقبنا عمل هذه الغرائز في كافة العلاقات الإنسانية بإستخدام ميكروسكوب ما فإننا سنكتشف تراجيدياً حقيقية وحرباً لا واعية يتصارع فيها الكل ضد الكل.
فما هي الغرائز ؟
انها وفقاً للتعريف العلمي " أنماط سلوكية موروثة تشكَّل من خلال الإحتياجات البيولوجية مثل البقاء والتكاثر"، فهي رغم أنها أنماط سلوكية إلا أنها في النهاية ثوابت بيولوجية مثل أعضاء أجسامنا كالقلب والرئتين والخ، ونحن نحتاج إليها لنبقي علي قيد الحياة ولا نستطيع العيش بدونها. أرجوا ان تستوعب هذا التعريف جيداً لأنه محوري ليس في هذا المقال فحسب بل في حياتك كلها.
وهذه الغرائز هي التي تُحرّكنا في كل أمر من أمور حياتنا، وتتحكم في سلوكياتنا بالكامل، وتقودنا بطريقة آلية كنظام الطيار الآلي أو الروبوت، ولا سبيل الي التحرر من أسر هذة الغرائز إلا بترويضها مثلما نروض الحيوان المفترس.
وليس هذا بالأمر السهل حيث أنه يحتاج الي نوع من التصوف والرهبينه، ولكن بإستخدام النظرة الميكروسكوبية الفاحصة بهدف فهمها وفهم تأثيرها علينا وفهم كيفية تفاعلها، بالإضافة إلى التدريب والترويض، يمكننا أن نتحرر من أسر الصراعات النفسية التي نعيشها ولا نعرف أسبابها، ويمكننا ان نعالج جراح نفوسنا، ويمكننا أن نٌحافظ علي غرائذنا هادئة بعيدة عن التهديدات التي تجعلها تثور وتدّمر.
ولقد قمت بوضع برنامج تدريبي ومنهج منظم لترويض هذه الغرائز مبني علي أساس الفهم العميق للنفس البشرية وهو برنامج ثوري ومحتوى غير مسبوق، وهذا إعلان صريح عنه للمهتمين بهذا الموضوع المهم.
أما عن المعركة وعن الصراع الذي نخوضه باستمرار، فسأعرض هنا مثال من الحياة اليومية التي نعيشها للتوضيح..
فمثلاً عندما يقول لك شخصٍ ما كملة أمام الآخرين، وهذة الكلمة قد يكون لها معاني أُخرى في سياق الحديث ولكنك تعرف أنها تنال منك وتقلل من إحترام الآخرين لك، وهذا الشخص الذي قد يكون قريباً جداً منك وربما يقولها وهو مبتسم علي سبيل المداعبة او المِزاح، فما الذي حدث هنا ؟
بصرف النظر عن رد فعلك فإن هذا الشخص هاجم غريزة أساسية من غرائز البقاء الإجتماعية لديك، وهي غريزة الإحترام، فكل إنسان يريد أن يكون محترماً من الآخرين، وسيكون رد فعلك اللاإرادي والخفي هو الإنتقام، نعم ستدفعك الغريزة الي الإنتقام منه بطريقة خفية، وإن لم تفعل ستظل غريزتك تتألم وتنزف طوال الوقت، وضع في إعتبارك أن عقلك الباطن يفكر طوال الوقت في عدد كبير جدا جدا من الأفكار حتي وأنت نائم، وتقدر هذه الأفكار ب 20 مليون فكرة في الثانية الواحدة.
ومن هذة الأفكار هو ذلك الاحساس بالإيذاء الذي سببه لك ذلك الشخص عندما هاجم غريزة الإحترام لديك.
وفي علم الأفكار فإن هذا ينعكس عليك سلوكياً وجسمانياً، ولن يتسع المجال هنا لشرح هذة النقطة المتعلقة بعلم الأفكار لكن يكفي أن نشير إلى أن هذة الافكار الدفينة في عقلك الباطن والتي تتعلق بالشعور بالإيذاء من الآخرين، تجعلك تعيش في ضنق متقبلاً دور الضحية ومكتئبا لا تعرف سبباً لإكتئابك، وبالتتابع يسبب الاكتئاب لك الكسل والخمول واللامبالاه وعدم الإنجاز والخ..... هذا مٌحزن أليس كذلك ؟
هناك ما هو مٌحزن أكثر من ذلك، وأنا آسف أنني أصدمك بهذة الحقائق الخطيرة والتي تكشف عن مأساة تراجيدية كبيرة نعيش فيها، لكن الأمر الجيد في هذا الإطار هو أن مجرد كشف الستار عن هذة الحقائق يعتبر خطوة كبيرة في سبيل التقدم.
الأكثر من ذلك حزناً هو أنك تٌحاول أن تنتقم، وأعني هنا أنك تتعمد ذلك بوعيك لأنك تعرف بذكائك أن هذا الشخص المبتسم أمامك أساء لك متعمداً، أولاً ستفكر في الإنتقام بوعيك وتتخيل، وربما تأتي به في خيالك وتمزقه، وأنت في هذة الحالة تُعيد إنتاج الأفكار السيئة وتعيد إنتاج الشعور بالإيذاء وبالتالي يتضاعف تأثير هذة الأفكار عليك وعلي حياتك، إنتبه لهذة النقطة جيداً.
ثانياً فإنك عندما تقدم علي الإنتقام فإنك لا تتخلّص بذلك من تلك الأفكار المسمومة بداخلك، بل تُزيدها وتجعلها تتضاعف، بالإضافة إلي أن هناك أفكار مسمومة أخرى سينتجها عقلك وسينتجها الموقف، بإختصار فإنك عندما تنتقم تقتل الشخص الآخر وتقتل معه نفسك.
والأسوأ من ذلك كله هو أن غرائزك تهاجم أشخاص آخرين ليس لهم ذنب ولم يتسببوا في إيذائك وهذا هو الإنتقام الغير واعي منك واللاإرادي، وقد يكون الشخص الذي تنتقم منه أقرب الناس إليك، وهذا ببساطة لأن غرائزك لا تعقل، وهذة النقطة خطيرة جداً وجديرة بالإهتمام، إنها حقاً تراجيديا حرب الغرائز المأساوية.
وهذا ليس كل شئ فالموضوع كبير ومعقد، وكل ما أردته في هذا المقال هو أن ألقي الضوء علي هذا الموضوع الخطير، لأنه كما ذكرت في البداية فإن أخطر شئ علي الفارس في أرض المعركة هو الظلام، لذلك فإني أفضل دائماً هذا الدعاء ( اللهم يا نور النور نورلي بصري وبصيرتي ) ولا تنساني بدعاء.
وختاماً أنصحكم بالقيام بهذا التمرين لزيادة الفاعلية من هذه المعلومات، وهو..
1) أن تقرأ المقال مرة أخري بتركيز واستيعاب أعلي.
2) أن تحاول الإجابة علي هذا السؤال بنفسك ( ما هي الغرائز الأساسية بالنسبة لي ؟ ) وذلك في كل جوانب حياتك.
3) وهذا هو الجزأ الأهم في التمرين : أكتب قائة بالأشخاص والأشياء والأماكن التي تسببت بإذائك والتي هاجمت غرائزك، أعصر ذهنك في ذلك وأبدأ من الحاضر الي الماضي، هذا التمرين قوى جداً وله تأثير قوى علي حياتك.
بقلم أ/ سيد صابر
أستاذ الفلسفة ومدرب التنمية البشرية