"إذا فاتك الميري اتمرّغ في ترابه"، عبارة ترددت ملايين المرّات علي مدار تاريخنا المصري، بل مليارات المرات، ولايزال الشعب المصري يُرددها إلي الآن.
ولا شك أنها أصبحت جزأً من مكونات الشخصية المصرية، بدليل أعداد الطلبة المتقدمين سنوياً للكليات العسكرية بأنواعها المختلفة، والذين هم علي إستعداد تام لفعل أي شيء والقبول بأي شيء، ( أي شيء) لكي يتم قبولهم في هذه الكليات (الميري).
يتعرضون لأنواع عديدة من الإبتزاز والإستغلال وأسوأ أنواع المعاملة، ويقبلون بخنوع تام، وكل ذلك في سبيل إرتداء البذلة الميري.
وهؤلاء بوصفهم بشراً لهم مشاعرهم الخاصة التي ينتُج عنها توقعاتهم وسلوكهم، ولكنهم يضطرّون دائماً إلى كبتها، لأن التدريبات العسكرية ذاتها تجبرهم علي ذلك، بهدف التحكم الكامل في سلوكياتهم، فلا يستطيع الواحد منهم معارضة أمر قائده حتي ولو خارج أوقات العمل، وحتى لو كان هذا الأمر نفسه خارج العمل، وبالمناسبه هم لا يعرفون أوقات للعمل ويعيشون في عملٍ دائم، وحتى إذا خلعوا ملابسهم الرسمية وذهبوا للتنزّه، لا يستطيع الواحد منهم أن ينسى أبداً أنه لواء أو ضابط أو حتى أمين شرطه، وهذا يُسبب لهم الضغط العصبي المزمن أيضاً.
تحكُّم في السلوك، كبت مشاعر، ضغط العصبي مزمن !، ماذا تريد أن تقول أيها الكاتب المتفلسف ؟!
أنظر معي عزيزي القارئ إلي التدريبات العسكرية التي بالتأكيد أنت نفسك تدرّبت عليها مراراًً وتكراراًً، وأنا أيضاً ولكن الفرق أنني تلقيت تعليماً مختلفاً وهو الفلسفة وتخصصت في دراسة علوم الإنسان، وأنت معي الآن في رحلة غير عادية بالتأكيد بالنسبة لك ستستكشف فيها آفاقاً جديدة، وهذه هي الغاية من تعلّمي للفلسفة وهذا هو وواجبي تجاهك.
حسناً بدأنا نتعلم هذه التدريبات في المدارس الإبتدائية، في طابور الصباح، كان يُقال لنا، مدرسه صفا، مدرسه إنتباه، مدرسه صفا، مدرسه إنتباه، لليمين دُر، لليسار دُر، بالتأكيد تذكر ذلك عزيزي القارئ.
وأستمرّينا في ممارسة هذة التمارين طوال سنين دراستنا إلي أن أنهينا المرحلة الثانوية وذهبنا إلي الجامعة، بالتأكيد تذكر ذلك أيضاً، فهي حقائق مسلّم بها، والسؤال الآن هو، ماذا وراء هذه التمارين ؟
كنّا نظن وقتها أنها لتنظيم الطابور، وتعلّم النظام، وبالتأكيد كنت تظن ذلك أنت أيضاً.
ولكن إلى متى سنظل ننظر إلي الأمور بنفس النظرة الطفولية تلك، ألم ننضج بعد ؟، ولا بد لآراءنا ووجهات نظرنا للأمور (حتى ولو كانت بسيطة) أن تنضج معنا هي الأخرى ؟
والآن دعني أصدمك ببعض الحقيقة وليست كلها، فالحقيقة دائماً متجزأة ولا تتأتى كاملة. إن الغاية من هذه التمارين هو تدرّيب عقولنا علي الطاعة، وليست أي طاعة بل الطاعة العمياء، بدون أن نسأل، فلا يسأل أحد في أي طابور عسكري لماذا صفا، أو لماذا إنتباه، هو ببساطه يُطيع "ويتدرّب" علي الطاعة، والتدريب المُستمر والمُتكرر هدفه هو غرس هذه الطاعة في نفوسنا وجعلها جزأً منّا ومن مكونات شخصياتنا.هذه ببساطة بعض الحقيقة وليست كلها.
والآن دعنا نُكمل البحث في الشخصية العسكرية، فنقول، طاعةٌ عمياء، ومشاعرٌ مكبوته، وضغط عصبي مزمن، ونظام تدريبي يتحكّم في السلوك. وهذه ليست كل ملامح الشخصية العسكرية ولكن هي خطوط عريضة فقط، تكفيني لكي أبني عليها حُكمي، لأن حُجّيتها مثبته منطقياً، أما باقي التفاصيل فأتركها للنفسيين.
وبمناسبة النفسيين يمكنني أن أقول لك بملئ الفم وبكل تأكيد العلماء النفسيين والسلوكيين، أن هذا النمط من الشخصيات هو أخطر شيء ممكن أن تتعامل معه علي المستوى الشخصي. لأن مشاعره المكبوتة وغرائذه المُهانة بسبب كبت تلك المشاعر تسعى دائماً إلي الإنتقام، وهذا الإنتقام يأخذ أشكالاً مُلّتفّه مُتعددة وغريبة، أبسطها إهانة غريزة إحترام الآخرين لأنفسهم.
وأما الطاعة العمياء التي تدرّب عليها تجعله يُنفّذ أي أمر يتلقاه، فإذا قيل له أقتل فسينفّذ بدون أن يعرف من هو الضحية ولماذا يُقتل.
وكل هذه المقدمات التي ذكرتها حتمياً توصّلنا إلي نتيجة، وهذه النتيجة هي أننا أمام كائن بشري تم تهجينه وتشكيله ونمذجته لكي يكون آلة قمع، لا آلة حماية.
وأعني بتهجينه أنه أصبح كائن غير عادي لا يشبه باقي أفراد نوعه من المواطنين، ولأن هذا التهجين لم يتوقف عند حد السلوك فحسب، بل وصل إلى الجينات بتأكيد نظريات علماء البيولوجيا، وليس هذا فحسب بل إن علم الهندسة الوراثية يؤكد أن هذا التأثير يمتد رأسياً عبر الأجيال.
كما أعني بتشكيله ونمذجته، أنه تم التحكّم في نموذجه العقلي وإستبداله بنموذج جديد، وهذا النموذج يشبه البرنامج إذا شبهنا العقل بالأي سي الإلكتروني، وهناك مبحث فلسفي يختص بدراسة النماذج العقلية يسمى "البرادايم"، ومن خلال التحكم في هذا البرادايم يمكن نمذجة العقل البشري وهو ما يعني تشكيل الإنسان كالفخّار.
وكل هذه المقدمات التي ذكرتها حتمياً توصّلنا إلي نتيجة، وهذه النتيجة هي أننا أمام كائن بشري تم تهجينه وتشكيله ونمذجته لكي يكون آلة قمع، لا آلة حماية.
وأعني بتهجينه أنه أصبح كائن غير عادي لا يشبه باقي أفراد نوعه من المواطنين، ولأن هذا التهجين لم يتوقف عند حد السلوك فحسب، بل وصل إلى الجينات بتأكيد نظريات علماء البيولوجيا، وليس هذا فحسب بل إن علم الهندسة الوراثية يؤكد أن هذا التأثير يمتد رأسياً عبر الأجيال.
كما أعني بتشكيله ونمذجته، أنه تم التحكّم في نموذجه العقلي وإستبداله بنموذج جديد، وهذا النموذج يشبه البرنامج إذا شبهنا العقل بالأي سي الإلكتروني، وهناك مبحث فلسفي يختص بدراسة النماذج العقلية يسمى "البرادايم"، ومن خلال التحكم في هذا البرادايم يمكن نمذجة العقل البشري وهو ما يعني تشكيل الإنسان كالفخّار.
ولا تستغرب عزيزي القارئ من كلمة "آلة"، لأن هناك فرع في علم النفس يسمّى "علم التحكم الآلي" وهو معني بتحويل البشر إلى آلات، والتحكم في سلوكياتها بطريقة مُحكمة مثل التي في الآلات.
إننا بحاجة إلي تحليل نظم التشغيل لهذه الآلات البشرية (الشرطة أو العسكريين عموماً)، لكي نُعيد برمجتها من جديد وفق منظومة قيم نبيلة لا وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ولا وفق مبادئ أخري ليست من أختيارنا.
ولكن كيف لنا أن نبرمج بشر ونحن لم نبرمج بعد الهواتف التي نحملها ونكتفي فقط باللعب عليها ؟، هذا السؤال يُعيدني من أحلامي مرة أخرى إلي الواقع المؤسف، ولكنه علي أي حال يذكّرنا بحجم التحدي لكي نُدرك ما علينا فعله.
فإلى متى سنظل نشكوا من قمع الحرّيات وسوء معاملة الشرطة في بلادنا ؟، وإلي متى سنظل ننظر إلي الأمور نظرة الطفل الذي يُحمّل المسؤلية دائماً للآخرين ؟، لابد من أن نتحمّل نحن مسؤلية كل ما نشكوا منه وأن نغيّره بأيدينا، أو علي الأقل نُشير إلي العيوب وأوجه القصور والنقص في كل شيء حولنا، ونصرخ في وجه كل مسؤل بأعلى صوتنا قائلين، "نحن بشر، نحن أرقى الكائنات، وأحسن ما خلق الله في الكون، ونحن أحرار، وخلقنا الله أحرار"، وإن كنّا تنازلنا عن جزأ من حريتنا ومنحناها للنظام العسكري في بلادنا، فهذا لكي يحمينا من كل أنواع الخطر لا لكي يسلب حقوقنا ويقمع حرياتنا.
إننا عجزنا عن تحمّل المسؤلية تجاه مجتمعاتنا، ولا بد أن نعترف بذلك حتى نمنع المبررات التي تبرر لنا عجزنا، وما شكوانا من أنظمتنا وعبارات الإحتقار لبلادنا ومجتمعاتنا التي نسمعها من أول شخص نقابله في الشارع العربي، إلا نتيجة مباشرة لتخلينا عن مسؤليتنا ودورنا تجاه إصلاح ما يجب إصلاحه، بالإضافة إلي أنه علامةً واضحة علي عدم قدرتنا علي الإندماج في المجتمع، إننا أصبحنا لا نجيد دور الضحية فحسب بل أدمناه.
ولا شك أن هذا أيضاً بسبب أنظمة إعلامية فاسدة دائماً تُحقّر من شأننا وتقارن أسوأ ما فينا بأفضل ما في الغرب، وهذه المقارنة الغير عادلة علي الإطلاق إيضاً سبب في تدنّي تقديرنا لأنفسنا، لكن سبب فساد هذه الأنظمة يعود إلي تخلينا عن دورنا في توجيهها إلي الإتجاه الصحيح، وهذا الأمر ينظبق علي كل الأنظمة الأخرى بالتأكيد.
ان الشخصية العسكرية لديها مفاهيمها الخاصة بها، والتي تُشكّل مُدخلات لنظامها التشغيلي، والتي بالتأكيد ينتج عنها المخرجات التي نشكوا منها الآن، ومن هذه المفاهيم هو مفهوم "السُلطة"، فالسلطة بالنسبة لهم تعني "القوّة"، والقوّة تعني المنع والقمع والتحكم في أفعال الآخرين. وهذا "المفهوم" للسلطة قديم وسطحي ومحدود جداً، وبالتأكيد ستجد نفس هذا المفهوم عندك عزيزي القارئ، وهذا يدل علي أنك أنت نفسك جزأ من هذه الآلة العسكرية، وبك جزأ عسكري تكوّن وترسّخ فيك نتيجة النظام التربوي الذي تربنا عليه، أتذكر تمرين صفا وإنتباه الذي حدثتك عنه؟، نعم هذا جزأ آخر صادم من الحقيقة التي لا تتأتى أبداً كاملة، بمعنى أنه لايزال هناك أجزاء أخرى.
بالتأكيد تتسائل الآن عن المفاهيم الأخرى للسلطة وتنتظر أن أقولها لك، حسناً سأقول لك أن هذه المفاهيم يجب أن تصوغها أنت، يجب أن تتفكر وتتأمل وتصل إلي نتيجة وتعلن عنها ليراها الآخرون، يجب عليك أن تبني رؤيتك للحياة بنفسك يا عزيزي لا أن تقبل فقط بما يفرض عليك. قال أحد الفلاسفة أن القبول والرفض لا يعتبر تفكير بل تصويت. لا تنتظر مني حلول بل أصنعها أنت.
وبالتأكيد سأواصل الشرح لك في مقالات أخرى، وسأصوغ مفهوم مغاير للسلطة، هذا هو واجبي ودوري ، ولكن واجبك أنت أيضاً أن تساهم في صناعة الحلول، إرسل لي وجهة نظرك علي الأقل في بريد إلكتروني، أو أكتبها في مقال وأتركها تسبح علي الانترنت، المهم أن تساهم في صناعة الحلول وأن تكون إيجابياً.
وفي الختام أريد أن أقول أن الفرق كبير جداً بين من يدرسون البرمجة كهواية ليبرمجوا هواتفهم بأنفسهم وبين من يكتفون بإستخدامها فقط واللعب عليها، وبين من يقضون أوقاتهم علي الإنترنت في أشياء تافهة، وبين من يطوّرون أنفسهم طول الوقت بالقراءة وتعلّم الأشياء الجديدة، وبين من يتعلّمون الإبداع بالحرية ومن يتعلّمون الطاعة بالقمع.
إن الأمر ياصديقي يشبه الفرق بين الأسد وبين صورة الأسد.
شكراً علي القراءة.
بقلم
السيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية
كاتب ومحاضر في العلوم الإنسانية والتحليل السياسي
sayedosaber@gmail.com
sayedo.blogspot.com