الطريق الآخر لحياة أفضل الطريق الآخر لحياة أفضل
recent

آخر الأخبار

recent
الدورات التدريبية
جاري التحميل ...

فارس النور - باولو كويليو



 فارس النور


باولو كويليو





ـ ترجمة عبد الحميد الغرباوي




يا مريم التي حملت دون خطيئة صلي من أجلنا نحن الذين نلجأ إليك آمين.
ريو دي جانيرو
السبت 31 من سنة 1966.

*****



ملاحظة من الكاتب

باستثناء المقدمة والخاتمة، فإن كل نصوص هذا الكتاب، نشرت في عمود "مكتوب" بصحيفة" فولها ساو باولو"، و في غيرها من الصحف البرازيلية المختلفة أو الأجنبية، ما بين 1993 و1996 .




من أجل: س.إ. ل.
إدواردو رانجيل
و آن كاريير،
اللذان يُعدان أستاذين في استعمال الصرامة والرأفة.



" ليس التلميذ أرفع من معلمه،
بل كل من اكتمل تعليمه
يصير مثل معلمه."
لوقا، الإصحاح السادس، الآية 40 .



تمهيد


قالت المرأة:
ـ من الشاطئ ، شرق القرية، تتراءى جزيرة تـنتصب عليها كنيسة ضخمة كثيرة الأجراس.
لم يكن الصبي رآها قط من قبل في الضواحي؛ و لاحظ أنها ترتدي ملابس غريبة، وتستر شعرها بحجاب.
سألته المرأة:
ـ هل تعرف تلك الكنيسة؟ اذهب و زرها، ثم قل لي رأيك فيها.
ذهب الصبي، مفتـتـنا بجمالها، إلى المكان المشار إليه. وهو جالس على الرمل، أمعن النظر في الأفق، لكنه لم ير سوى المشهد الذي اعتاد رؤيته: السماء الزرقاء المتصلة بالمحيط.
سار وهو خائب الظن، إلى أن وصل قرية صغيرة مجاورة، و سأل الصيادين إن كانوا قد سمعوا بجزيرة وكنيسة.
أجابه صياد مسن قائلا:
ـ أجل! كان ذلك، منذ حقبة بعيدة، في عهد أجدادي الذين كانوا يسكنون هنا. لكن زلزالا حدث، فابتـلع البحر الجزيرة. ورغم ذلك، و إن كنا لم نعد أبدا نستطيع رؤيتها، فلا يزال يحدث لنا، حين تتحرك الأمواج في الأعماق البحرية، سمع قرع أجراس الكنيسة.
عاد الصبي إلى الشاطئ، و أصاخ السمع، و ظل المساءَ كله على تلك الحالة ، لكنه لم يسمع سوى صخب الأمواج و صراخ النوارس.
ولمّا نزل الليل،جاء والداه يبحثان عنه. بيد أنه في صباح اليوم التالي، عاد إلى الشاطئ؛ كانت صورة المرأة تستحوذ على وجدانه، و خيل إليه أن من غير المعقول أن تكذب عليه امرأة في مثل جمالها. و إذا ما عادت ذات يوم، فسيكون باستطاعته أن يقول لها بأنه لم ير الجزيرة، غير أنه سمع قرع الأجراس بفعل تحرك الأمواج.
مرت شهور و هو على هذه الحالة، و لم تعد المرأة، فنسيها الصبي؛ لكنه كان يتذكر وجود كنيسة تحت الماء، والكنيسة تخبئ ، دائما، بداخلها ثروات و كنوز. إذا ما سمع قرع الأجراس، فسيتيقن من أن الصيادين، كانوا على حق في ما قالوه له؛ و هكذا عندما يصير كبيرا، فسيستطيع أن يجمع ما يكفي من المال، لتنظيم رحلة استكشاف و العثور على الكنز المخبوء.
لم يعد يهتم للدراسة، و لا لرفاقه. صار موضوع سخرية محببة لدى الأطفال الآخرين، الذين كانوا يرددون:
ـ لم يعد أبدا مثلنا. إنه يحبذ البقاء جالسا على الشاطئ مواجها البحر، و يتجنب اللعب معنا لأنه يخشى الهزيمة.
كانوا كلهم يضحكون وهم يرون الصبي جالسا على الشاطئ.
ورغم عدم تمكنه من سماع قرع الأجراس القديمة للكنيسة، فإن الصبي، كان، كل صباح يتعلم شيئا جديدا. في البداية، اكتشف أنه لكثرة سماعه لإشاعتهم، لم يعد يسمح لنفسه أن تشرد بفعل تأثير الأمواج. و بعد ذلك بقليل،اعتاد صرخات النورس، و طنين النحل، وحفيف أوراق النخل.
بعد ستة أشهر على أول لقاء له بالمرأة، صار الصبي قادرا على عدم ترك نفسه يستحوذ عليها أي ضجيج...
ـ لكنه ورغم كل ذلك، لم يكن قد سمع بعد قرع أجراس الكنيسة المغمورة.
أتى صيادون آخرون ليقولوا له مؤكدين بإلحاح:
ـ نحن نسمعها!
لكن الطفل لم يكن قد سمعها بعد.
بعد وقت قصير، تغيرت أقوال الصيادين:
ـ أنت تهتم كثيرا لضجيج الأجراس؛ دع عنك ذلك وعد إلى اللعب مع أقرانك. فلعل الصيادين وحدهم القادرين على سماعها.
بعد نحو سنة، قرر الصبي صرف النظر عن الأمر"
ـ "فهؤلاء الرجال ربما هم محقون. من الأفضل أن أكبر و أصير صيادا، و حينذاك، أعود كل صباح إلى هذا الشاطئ أسمع قرع الأجراس".
و فكر أيضا:
ـ "لعل هذا كله ما هو إلا خرافة، الزلزال حطم الأجراس و لن تقرع أبدا"
في ذلك المساء، قرر العودة إلى بيته.
وهو يقترب من البحر ليودعه، تأمل مرة أخرى الطبيعة، وبما أنه لم يعد يهتم للأجراس، فقد ابتسم لجمال غناء النورس، وهدير البحر، و حفيف أوراق النخل. سمع أصوات أصدقائه في البعيد يمرحون فأحس بالسعادة وهو يدرك أنه يستطيع العودة إلى ألعاب طفولته. كانوا يسخرون منه، ربما، لكنهم سينسون بسرعة ما حدث، ويستقبلونه بحفاوة.
كان الصبي سعيدا و ـ الشيء الذي لا يمكن أن يقوم به سوى طفل مثله ـ حمد الرب لأنه لا يزال حيا. وكان متيقنا أنه لم يضيع وقته، ذلك لأنه تعلم كيف يتأمل الطبيعة و يبجلها.
بعد ذلك، ولأنه كان ينصت إلى البحر، وإلى النورس، وإلى الريح، حفيف أوراق النخل، وإلى أصوات أصدقائه يلعبون، فقد سمع، أيضا، دقات أول جرس.
و آخر.
وأيضا آخر. إلى اللحظة التي أخذت فيها كل أجراس الكنيسة المغمورة تحت الماء تقرع لتملأه بالفرح.
سنوات بعد ذلك، حين صار رجلا، عاد إلى قرية طفولته، لم يكن في نيته قطعا، إخراج بعض الكنوز المغمورة تحت الماء، فذلك ربما كان ثمرة تخيلاته الصبيانية، وربما أيضا، لم يسمع أبدا قرع الأجراس المغمورة تحت الماء، ورغم ذلك، قرر الذهاب إلى الشاطئ ليسمع صخب الريح وغناء النورس.
ولا تتصوروا مدى دهشته، حين شاهد المرأة التي كانت حدثته عن الجزيرة وكنيستها جالسة على الرمل.
سألها:
ـ ماذا تفعلين هنا؟
ـ أنتظرك.
رغم مرور العديد من السنوات، ظلت المرأة محتفظة بنفس المظهر، وبنفس الحجاب يغطي شعرها. لم يكن تأثير الزمن باديا عليها.
سلمته دفترا أزرق، صفحاته خالية من الكتابة.
ـ اكتب، فارس النور يحترم نظرة الطفل، لأن الأطفال يعرفون كيف ينظرون إلى العالم دون كآبة. وحين يرغب في معرفة إن كان شخص ما جديرا بثقته فإنه ينظر إليه بعيني طفل.
ـ من هو فارس النور؟
أجابت مبتسمة:
ـ أنت تعرفه. إنه القادر على إدراك معجزة الحياة، القادر على المحاربة وحتى الرمق الأخير من أجل ما يؤمن به، والقادر ـ في ذات اللحظة ـ على سماع الأجراس التي يجعلها البحر تقرع في أعماقه.
لم يشهد أبدا يوما على نفسه أنه فارس النور. وبدا أن المرأة خمنت أفكاره.
ـ الكل قادر على ذلك، ولا أحد يشهد على نفسه أنه فارس النور، علما أن الجميع يقدر أن يكون كذلك.
نظر إلى صفحات الدفتر، ابتسمت المرأة ثانية، وألحت قائلة:
ـ اكتب.


دليل فارس النور

=

فارس النور لا ينسى أبدا الاعتراف بالجميل.
فالملائكة ساعدته خلال الصراع؛ والقوى السماوية وضعت كل شيء في المكان اللائق به، ومكنت الفارس من أن يقدم أفضل ما لديه.
يعلق رفاقه:" يا لحظّه!"
ذلك لأن الفارس يحقق أحيانا أشياء تفوق بكثير ما يمكن أن تسمح له به إمكاناته وحدها ...
لهذا، و حين تغرب الشمس، يركع و يشكر الستار الواقي الذي يحيط به.
لكن إقراره بالجميل لا يقتصر على العالم الروحي؛ فهو لا ينسى أبدا الأصدقاء، لأن دماءهم امتزجت بدمه في ساحة المعركة.
الفارس ليس في حاجة إلى من يذكره بما بذله الآخرون من جهد من أجل مساعدته؛ هو يتذكر ذلك لوحده ، فيقتسم معهم الهبة.


=

كل طرق العالم تؤدي إلى قلب الفارس؛ إنه يرتمي دون تردد، في نهر العواطف الذي يعبر حياته.
يدرك الفارس أنه حر في اختيار ما يرغب فيه؛ قراراته يأخذها بشجاعة، ولامبالاة، و ـ أحيانا ـ بقدر من الجنون.
يرضى بعواطفه و يبتهج لها إلى أقصى حد. يدرك أنه ليس ضروريا أن يتخلى عن الحماسة للفتوحات؛ فهي جزء من الحياة، و تبهج كل من يشارك فيها.
لكنه يضع نصب عينيه الأشياء الدائمة و الأواصر المتينة التي نشأت عبر الزمن.
الفارس يعرف التمييز بين العابر و الأزلي.


=

فارس النور لا يعتمد على قواه الشخصية وحدها؛ بل يستخدم أيضا طاقة خصمه.
كل ما يملك، حين تندلع الحرب، هو حماسته، و الضربات الفنية التي تعلمها في التدريب؛ وكلما ازداد الصراع، يكتشف أن الحماسة و التدريب لا يكفيان للنصر: التجربة ضرورية.
لذا يفتح قلبه للكون و يطلب من الرب أن يلهمه، كي تكون أيضا كل ضربة يتلقاها من العدو، درسا له في الدفاع.
يعلق رفاقه:" يا لإيمانه بالخرافات! أوقف الصراع ليصلي، و هو يقدر حيل الخصم."
فارس النور لا يستجيب لهذه الاستفزازات. هو يدرك أن من دون إلهام و من دون تجربة، فلا جدوى من أي تدريب.


=

فارس النور لا يغش أبدا؛ لكنه يعرف كيف يلهي خصمه.
ومهما كان قلقا، فهو يستعمل كل حيل فن الحرب كي يصل إلى هدفه. و حين يشعر بقرب نفاد قوته، يدفع الخصم إلى الاعتقاد أنه لا يستعجل الانتصار. و حين يجب عليه الهجوم من ناحية اليمين، يحرك جنوده جهة اليسار. و إذا نوى مباشرة الصراع حالا، يتظاهر بالنعاس و بالتهيؤ للنوم.
يعلق أصدقاؤه:" انظروا ، ها هو يفقد حماسته!" لكنه لا يعطي أهمية للتعليقات، لأن أصدقاءه يجهلون خططه.
فارس النور يعرف ما يريد. وليس ملزما بأن يقدم تفسيرات.


=

يعلق حكيم صيني على فنون الحرب لدى فارس النور فيقول:
ـ اجعل عدوك يعتقد أنك لن تخرج بفائدة كبيرة من قرارك بالهجوم عليه؛ فبهذه الطريقة ستقلل من حماسته.
ـ لا تخجل من انسحاب مؤقت من المعركة،إذا ما أحسست أن العدو هو الأقوى؛ فالعبرة ليس في المعركة ذاتها، و لكن في ما تسفر عنه نهاية الحرب.
ـ إذا كنت قويا بما فيه الكفاية، فلا تخجل أيضا من التظاهر بالضعف؛ فهذا يسحب من عدوك حرصه و يدفعه إلى الهجوم قبل الأوان.
ـ في الحرب، مفتاح النصر يكمن في القدرة على مداهمة الخصم.


=

يقول فارس النور لنفسه:
" عجبا، فقد قابلت عددا من الناس الذين ـ ولدى أول فرصة تتاح لهم ـ يحاولون إبراز الأسوء ما فيهم . يخفون قواهم الباطنية، خلف العدوانية؛ ويسترون خوفهم من العزلة تحت مظهر الحرية. لا يؤمنون بقدراتهم الخاصة،لكن يقضون وقتهم يتحدثون و بصوت عال عن خصالهم."
يقرأ فارس النور هذه الإشارات لدى العديد من معارفه رجالا و نساء. لكنه لا يغتر أبدا بالمظاهر و يبذل قصارى جهده من أجل أن يظل صامتا حين يسعى الآخرون إلى التأثير عليه.
لكنه يغتنم أبسط فرصة لتصحيح عيوبه، ما دام الآخرون هم دائما مرآة جيدة لذواتنا.
فارس النور ينتهز كل الفرص كي يصير سيد نفسه.


=

محارب النور يصارع أحيانا مع من يحب.
فالشخص الذي يخص أصدقاءه بحمايته، لا تسيطر عليه أبدا أنواء الحياة؛ إذ لديه الكثير من القوة لتذليل الصعاب و التقدم إلى الأمام.
والحال أنه ، في كثير من الأحيان، يشعر أنه يُـتحدى من قبل أولئك الذين يحاول تعليمهم فن المسايفة.
أتباعه يحرضونه على محاربتهم.
فيستعرض الفارس ما يقدر عليه؛ و ببضع ضربات يلقي بأسلحة أتباعه على الأرض، وسرعان ما يعود الانسجام إلى مكان اجتماعهم.
يسأل مسافر:
ـ لماذا تفعل ذلك، ما دام أنك أنت الأعظم؟.
فيرد المحارب:
ـ ذلك لأنهم حين يتحدونني، يسعون في الحقيقة إلى الحديث معي، و بهذه الكيفية أبقي على الحوار مستمرا.


=

قبل مباشرة معركة هامة، يتساءل فارس النور:" إلى أي حد أنا طور ت مهارتي ؟"
يعرف أنه يتعلم دائما شيئا ما من كل المعارك التي خاضها في السابق.
في حين أن الكثير من هذه الدروس تسببت له في معاناة هو في غنى عنها.
غير ما مرة أضاع وقته مصارعا من أجل فرية، أو معانيا من أجل أناس لم يكونوا يستحقون حبه.
لكن المنتصرين لا يكررون نفس الخطإ. لذا لم يعد فارس النور يخاطر بقلبه إلا من أجل من يستحق ذلك.



=

يحترم فارس النور الدرس الأساسي لـ ( أي شينغ) : " المواظبة هي الأفضل."
يعرف أن المواظبة غير العناد. هناك فترات تطول فيها المعارك أكثر من اللازم، مستنفدة قوته و مضعفة حماسته.
في تلك الأوقات، يفكر الفارس:" إن حربا مُمدّد في عمرها، تدمر، في خاتمة المطاف، حتى البلاد المنتصرة."
حينذاك، يسحب قواته من ساحة المعركة، مانحا إياه استراحة. يحافظ على قوة إرادته، بيد أنه يعرف متى تأتي اللحظة الأمثل للقيام بهجوم جديد.
يعود دائما الفارس إلى الصراع. يفعل ذلك ليس أبدا بدافع قلق بل لأنه يلاحظ أن الوضع تغير.



=

يسجل فارس النور بيقين تام، أن هناك لحظات تكرر نفسها.
غالبا ما يجد نفسه في مواجهة مشكلات و مواقف سبق له أن واجهها. فيشعر لحظتها بالإحباط.
و يتصور نفسه عاجزا عن التقدم في الحياة، مادامت نفس الصعوبات قد عادت من جديد.
و يشتكي لقلبه:" لقد مررت بكل ذلك من قبل.".
فيرد عليه قلبه: " حقيقة أنت عشت كل ذلك، لكن لم تتجاوزه أبدا.".
و عندئذ يدرك فارس النور أن تكرار التجارب لها هدف وحيد: تلقينه ما لم يتعلمه بعد.




=

يقوم فارس النور دائما بحركات تخرج عن المألوف والمعتاد.
يمكنه أن يرقص في الشارع و هو متجه إلى عمله. أو أن يحدق في عيني شخص غريب والتحدث عن الحب من أول نظرة. أو أن يدافع عن فكرة تبدو سخيفة. فارس النور يسمح لنفسه بمثل هذه الأشياء.
لا يخشى البكاء مسترجعا أحزانا قديمة، أو الابتهاج لاكتشافات جديدة. عندما يشعر أن الوقت حان، يترك كل شيء ، و ينطلق إلى المغامرة التي طالما حلم بها. و حين يشعر أنه أعطى كل ما في طاقته من صمود، ينسحب من المعركة، دون الشعور بتأنيب ضمير لاقتراف حماقة أو حماقتين لم يكونا متوقعين.
فارس النور لا يقضي أيامه محاولا لعب الدور الذي اختاره له الآخرون.




=

نظرة فارسي النور تتوهج بوميض خاص. إنهم في العالم، وهم جزء من حياة الآخرين، ينطلقون في رحلتهم حفاة ، بلا نعال أو زاد، وغالبا ما يحدث لهم أن يكونوا جبناء، ولا يتصرفون دائما التصرف الصحيح.
يتألم فارسو النور لأتفه الأسباب، لديهم تصرفات وضيعة، و يشهدون أحيانا على أنفسهم أنهم غير قادرين على مسايرة التطور، وأحيانا يرون أنفسهم غير جديرين بأية بركة أو معجزة.
لا يعرفون على وجه اليقين ما يفعلون هنا. غالبا ما يقضون ليال بدون نوم، معتقدين أن حياتهم لا معنى لها.
لهذا السبب هم فارسو نور.لأنهم يخطئون. لأنهم يتساءلون. لأنهم يبحثون عن سبب ـ و الأكيد أنهم يجدونه.


=

فارس النور لا يخشى أن يبدو مجنونا في نظر الآخرين .
يتحدث إلى نفسه بصوت عال حين يكون بمفرده.
إنها الطريقة المثلى للتواصل مع الملائكة ، هذا ما تعلمه من أحد الأشخاص.
في البداية، يجد التحدث إلى النفس صعبا للغاية.
يظن أن ليس لديه ما يقوله، و أنه لن يكرر سوى الكلام الفارغ من أي معنى.
ورغم ذلك، يصر الفارس.
كل يوم يتحدث إلى قلبه.
يقول أشياء لا يِِؤمن بها إطلاقا، يقول أي كلام.
وذات يوم، يلاحظ تغيرا في نبرات صوته، و يدرك أنه بصدد حفر قناة لحكمة عالية.
يبدو الفارس مجنونا، لكن ذلك مجرد قناع.




=

قال شاعر:" فارس النور ينتقي أعداءه".
يعرف فارس النور مدى قدراته، وليس في حاجة إلى أن ينتقل من مكان إلى مكان متبجحا بميزاته وفضائله.
والحال أن في كل لحظة، يبرز من يود أن يبرهن على أنه أفضل منه.
يعرف الفارس أن لا وجود لـ " أفضل " أو " أسوأ ": فكل شخص متمكن من ملكات ضرورية لشق طريقه الخاص.
لكن بعض الأشخاص يتمسكون بعنادهم.
يستفزونه ، يهينونه ، و يعملون كل ما بوسعهم لإثارته.
ولحظتها، يهمس له قلبه:" لا تستجب لهذه الإهانات، فلن تضيف شيئا لمهارتك، بل ستنهك نفسك دون طائل."
لا يهدر فارس النور وقته في الاستجابة للاستفزازات؛ إذ عليه أن يحث السير إلى ما هو مقدر له أن ينجزه.


=

يتذكر فارس النور، في كل لحظة، مقطعا لـ " جون بونيان"*:
" رغم كل ما اجتزته من عقبات و مررت به من محن، فأنا غير نادم على الصعوبات الكثيرة التي واجهتها، لأنها هي التي قادتني إلى المكان الذي رغبت الوصول إليه. و الآن، و باقتراب النهاية، كل ما أملكه هذا السيف و سأمنحه لمن يريد مواصلة الطريق إلى حجه. أحمل معي علامات و ندوب المعارك ـ هي الشواهد على ما عانيت و المكافآت على ما أنجزته من فتوحات.
" هذه العلامات و الندوب العزيزة هي التي ستفتح لي أبواب الجنة.
هناك زمان، قضّيت حياتي أسمع فيه حكايات الشجاعة و البطولة.
هناك زمان عشت فيه فقط لحاجتي إلى العيش.
لكني الآن أعيش لأني فارس، و لأني أتمنى أن يأتي يوم أكون فيه صحبة ذاك الذي قاتلت من أجله بضراوة ".


=

يتعرف فارس النور طريقه اللحظة التي يبدأ فيها المسير.
كل حجرة، كل منعطف يرحب به. يتماهى مع الجبال و المسيلات. يرى بعضا من روحه في النباتات و الحيوانات و طيور البادية.
عندئذ، و قد رضي بمعونة الرب و علاماته، يستسلم لأسطورته الشخصية مفسحا المجال لها لترشده إلى المهمات التي احتفظت بها لأجله.
في بعض الليالي، لا يجد مأوى يأوي إليه لينام، و في ليال أخر، يتألم أرقا. يقول المحارب في داخله:" أنا من قرر أن يسلك السبيل هذا، و هذا الألم ما هو إلا جزء منه."
في هذه العبارة تكمن قوته كلها. هو من اختار السبيل الذي يسلكه الآن، لذا عليه ألا يشتكي.



=

سيعمل، من الآن فصاعدا ـ و لقرون قليلة قادمة ـ الكونُ على مساعدة فارسي النور و سيصد عنهم أي ضرر.
طاقة الأرض في حاجة إلى تجديد.
الأفكار الجديدة في حاجة إلى فضاء.
الجسد و الروح في حاجة إلى تحديات جديدة.
المستقبل صار حاضرا، و كل الأحلام ـ باستثناء تلك التي تعكس أفكارا بالية ـ ستكون لديها الفرصة للظهور.
الأشياء المهمة ستبقى؛ أما التافه منها فسيتلاشى. لكن المحارب يعرف أنه ليس مطالبا بالحكم على أحلام الذين يأتون من بعده، و لا يهدر وقته في انتقاد قرارات الآخرين.
و كي يكون على ثقة بالسبيل الخاص به، هو ليس في حاجة إلى إثبات خطإ سبيل الآخر.


=

يدرس فارس النور وبحرص شديد، الموقع الذي ينوي احتلاله.
و مهما بلغت صعوبة الهدف، هناك دائما وسيلة للتغلب على العقبات. يتفحص السبل البديلة، و يشحذ سيفه، و يسعى جاهدا إلى ملإ قلبه بالعزم الضروري لمواجهة التحدي.
لكن، و كلما تقدم فارس النور، أدرك أن هناك صعوبات لم تكن حسبانه.
لو عليه أن ينتظر اللحظة المثالية، لما تحرك أبدا؛ فقليل من الجنون ضروري لاتخاذ خطوة أخرى.
يتصرف فارس النور بقليل من الجنون، ذلك لأنه ـ في الحرب كما في الحب ـ يستحيل التنبؤ بكل شيء.



=

يعرف فارس النور نقائصه كما يعرف مزاياه.
بعض الرفاق يكثرون من التشكي، يقولون: " الآخرون لديهم فرص أكثر من التي عندنا".
ربما يكونون على حق ؛ لكن المحارب لا يترك نفسه تصاب بالعجز جراء ذلك؛ بل يبحث عن الجوانب القوية فيه.
يعرف أن قوة الغزال تكمن في سرعة ركضه، و قوة النورس في دقة إصابة السمكة الهدف. تعلم فارس النور أن النمر لا يهاب الضبع ذلك لأنه يدرك مدى قوته.
يحاول المحارب معرفة على من يجب أن يعتمد، يفحص دائما متاعه، الذي يجب أن يتكون من ثلاثة عناصر: الإيمان ، الأمل و الحب.
إذا ما تواجد الثلاثة، فلا يتردد في مواصلة المسير.
فارس النور يعلم أن ما من أحد غبي، و أن الحياة يمكن أن يتعلم منها الجميع، و إن استدعى ذلك وقتا.
إنه، دائما، يقدم أفضل ما لديه و يتوقع من الآخرين أن يقدموا أفضل ما لديهم.
بأريحية يسعى إلى أن يبرز قيمة كل واحد منهم.
يعلق بعض الرفاق:" بعض الناس ينكرون الجميل".
لكن هذا لا يثني الفارس عن عزمه، و يستمر في تشجيع الآخرين، ففي ذلك تشجيع له هو نفسه.



=
ما من فارس نور إلا و اعتراه الخوف من دخول المعركة.
ما من فارس نور إلا و كذب أو خان في الماضي.
ما من فارس نور إلا و فقد الثقة في المستقبل.
ما من فارس نور إلا و تألم من أجل أشياء تافهة.
ما من فارس نور إلا و تلكأ في القيام بواجباته الروحية.
ما من فارس نور إلا و قال " نعم" حيث وجب عليه أن يقول " لا ".
ما من فارس نور إلا و آذى شخصا ما أحبه.
لكل هذا فهو فارس نور لأنه مر بكل هذه التجارب و لم يفقد الأمل في أن يصير أفضل مما هو عليه.



=

ينصت فارس النور، دائما، إلى أقوال بعض المتنبئين القدامى، كأقوال ت.هـ. هكسلي (T.H.HUXLEY):
" إن ما يترتب عن أفعالنا من نتائج، هو فزاعات للجبناء و منارات مضيئة للحكماء".
"
العالم رقعة شطرنج، و ما فوقها من قطع هي أفعال حياتنا اليومية، و قواعد اللعبة هي ما نسميه قوانين الطبيعة. لا نستطيع تعرف اللاعب الذي يواجهنا، إلا أننا نعرف أنه عادل و مستقيم و صبور."
على فارس النور قبول التحدي، هو يعرف أن الرب لا يرضى بأدنى خطإ من أولئك الذين يحبهم، و لا يسمح لمن اصطفاهم من عباده أن يجهلوا قواعد اللعبة.


=

لا يؤجل فارس النور اتخاذ قراراته.
إنه يفكر مليا قبل التحرك، و يأخذ في الاعتبار تدريباته، مسؤوليته و واجبه كمعلم.
يحرص على المحافظة على هدوئه، و يعتبر كل خطوة يخطوها كما لو كانت هي ذات الأهمية الأسمى.
حينذاك، و في لحظة اتخاذ القرار، يتقدم الفارس إلى الأمام: فلم يعد لديه مجال للشك في حسن اختياره، و لا يغير وجهته و لو كانت الأحوال غير تلك التي كان يتوقع.
إذا ما كان قراره صائبا فسيربح المعركة حتى و إن طالت أكثر مما كان يتصور.
وإذا ما كان قراره خاطئا فإنه سيهزم و ما عليه إلا أن يعيد الكرة ـ لكن بحكمة أكبر.
حين ينطلق فارس نور فإنه لا يتوقف و يثابر إلى النهاية.
يعرف فارس النور أن أفضل معلميه هم أولئك الذين يقاسمونه ساحة الوغى...
إن لمن الخطر طلب النصيحة، و الأخطر إسداؤها.
حين يحتاج الفارس مساعدة، فإنه يجهد نفسه في ملاحظة الكيفية التي يحل بها أصحابه أو لا يحلون بها مشكلاتهم.
و حين يبحث عن إلهام، يقرأ على شفتي من إلى جواره الكلمات التي يود ملاكه الحارس أن يقولها له.
و عندما يشعر بالتعب أو الوحدة، فإنه لا يحلم بالنساء أو الرجال البعيدين، بل يبحث عن المقربين إليه و يتقاسم معهم آلامهم و رغبتهم في الحنان ـ بسرور و دون شعور بالذنب.
يعرف الفارس أن النجم الأكثر بعدا في الكون يعلن عن نفسه من خلال الأشياء التي تحيط به.



=

فارس النور يقاسم الأشخاص الذين يحبهم عالمه.
و يحثهم على تحقيق رغباتهم إلا أنهم لا يملكون الجرأة.
في أوقات كهذه، يظهر الشر حاملا لوحين.
مكتوب على أحدهما:" فكر مليا في نفسك. احتفظ بنعمك لذاتك و إلا انتهيت بفقد كل شيء."
و يقرأ على الآخر: " من تكون أنت لتساعد الآخرين؟ أ لا ترى عيوبك الخاصة؟"
لا يجهل فارس النور عيوبه، لكن يعرف أيضا، أنه لا يستطيع أن يكبر لوحده بمنأى عن صحبه.
لذا، يلقي باللوحين أرضا حتى وإن اعتقد أنهما يجملان قدرا من الحقيقة.
يسقطان متحولين إلى غبار، ويواصل الفارس مساعدة المقربين إليه.
يقول الفيلسوف لاوتسو عن رحلة فارس النور:
"
يبدي الاحترام لكل الأشياء الصغيرة والتافهة. ويتعلم أن يدرك اللحظة المناسبة لتبني المواقف الضرورية."
"
وحتى وإن كنت قد استخدمت قوسك مرارا، فواظب على الانتباه إلى الطريقة التي توجه بها السهم وتشد الوتر."
"
عندما يعرف المبتدئ ما يريده، فإنه يثبت أنه أكثر ذكاء من متمرس شارد الذهن."
"
تكريس الحب يجلب الحظ، و تراكم الكراهية يجلب البؤس. و كل من يخفق في إدراك المشاكل يترك الباب مفتوحا أمام المآسي."
"
المعركة أمر مختلف عن الشجار."



=

يتأمل فارس النور.
يجلس في مكان هادئ داخل خيمة و يسلم نفسه للنور الرباني.
عندما يفعل ذلك يحاول ألا يفكر في أي شيء. يعزف عن الملذات و التحديات و الاستعراضات.
يتيح لمواهبه و قدراته أن تفصح عن ذاتها.
و حتى و إن لم يدرك ذلك في حينه، فإن تلك المواهب و القدرات سوف تهتم بحياته و تؤثر في كيانه يوما وراء يوم.
عندما يتأمل الفارس، لا يكون هو ذاته، بل يكون قبسا من نور العالم.
التأمل يمنحه إدراكا لمسؤولياته و كيف عليه أن يتصرف وفقها.
يعرف فارس النور أن في سكينة قلبه يسمع نداء يرشده.



=

يقول " هيريقل" لمعلمه " زن ":
"
يحدث في لحظة ما، حين أجذب قوسي ،أن أحس بالاختناق إن لم أطلق السهم في الحال .
و يعقب المعلم:
ـ متى أجهدت نفسك في استعجال اللحظة لإطلاق السهم، فلن تتعلم فن الرماية. إن اليد التي تجذب القوس يجب أن تفتح كيد طفل. الشيء الذي قد يحدث اضطرابا أحيانا في دقة التصويب، إنها الإرادة الحية للرامي."
يفكر فارس النور أحيانا: " ما لم أقم بإنجازه، فلن يتم إنجازه."
لكن لا يسير الأمر كذلك: عليه أن يتحرك، و لكن عليه أيضا أن يدع الكون يعمل في الوقت المطلوب.

عن الكاتب

Unknown

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مجلتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المجلة السريع ليصلك جديد المجلة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على زر الميكروفون المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الطريق الآخر لحياة أفضل