في مقال سابق تحدثت عن جوهر القيادة وقلت أنه الإستكشاف وأن هذا الإستكشاف هو العلم، فمن الجيد أن نبذل الجهد لنصعد لأعلى سلّم النجاح، ولكن الأمر الأفضل من ذلك، والحاسم أيضاً، هو أن نتأكد من أن هذا السلّم موضوع علي الحائط الصحيح. وهذا هو الإستكشاف الذي لا يكون إلا بالإنفتاح علي العلوم وجمع المعلومات. ولكن هذا ليس كل شيء عن القيادة، بل هو فقط جوهرها.
ولما وجدت أن هذا الجوهر المتمثل في صفة الإنفتاح علي العلم عند القائد ليس له معيار يؤخذ به في مجال إدارة الموارد البشرية شرعت في وضع معيار مبدئي لهذه الصفة الجوهورية بالإضافة إلي إلقاء الضوء عليها في المقال السابق.
أما في هذا المقال فسنستكمل الشرح والتوضويح لمعالم القيادة، وسنتناول بشكل أعمق فكرة القيادة وعلاقتها بالوعي الإنساني. لأنه للأسف الشديد ليس في مجتمعنا معالم واضحة ومحددة في الأذهان لمفهوم القيادة، الأمر الذي يعني أننا نفتقد إليها.
وهناك خلط كبير بين مفهوم القيادة التي هي فن إستكشافي يتسم بسمة الإبداع، ومفهوم الإدارة التي هي مجرد عمل تنفيذي ليس له علاقة بالإبتكار ولا بالإبداع.
ولا شك أن مهمة فصل القيادة عن الإدارة في مجتمع لا يفرّق بين القائد والمدير ليست بالمهمة السهلة، بالنظر إلي الواقع وبالنظر إلي تأثير هذا الفصل ومآلاته علي المستوى الشخصي والإجتماعي والسياسي والإقتصادي علي هذا الواقع.
لأن فصل القيادة عن الإدارة مثل عملية الإنشطار النووي للذرة التي ينتج عنها طاقة هائلة لا يمكن أحياناً توقعها. كما أن إندماج هذين العمليتين بوعي ودراية، ينتج عنه أيضاً طاقة هائلة مثل الطاقة الناتجة عن عملية الإندماج النووي أيضاً. وان شاء الله سنتناول هذه الطاقة بشكل منفرد في مقالات أخرى.
وهذا الفصل بين مفهومين القيادة والإدارة له تأثير كبير علي حياة الشخص الذي هو أنت صديقي القارئ، وكذلك علي الفن والسياسة والإقتصاد والتعليم والزراعة والصناعة والصحة وجميع قطاعات الدولة. لأننا نتحدث هنا عن وعي قيادي وإداري جديد تماماً غير الوعي السطحي القديم والمتهالك والذي تأسس عليه النظام البيروقراطي للدولة بالكامل.
هذا النظام الذي يحتاج إلي الكثير والكثير من الفحص والتحليل حتي نتمكن من التوصل إلي خطة لإصلاحة، وفي رأيي فإن أفضل خطة لإصلاحه هي التخلص منه بالكامل واستبداله بنظام بيروقراطي جديد متصالح مع العلم ومتواكب مع تطوراته.
ولا شك أن أي تغيير كهذا لابد أن يسبقه موجات قوية ومتتالية من الوعي، وهذا هو ما علينا فعله، وأتمنى أن يوفقنا الله لكي نفعل ما علينا فعله.
ان الكثيرين في مجتمعنا لا تتعدى معرفتهم عن القيادة ذلك المفهوم السطحي المستخدم في الكشافة، ويظنون أن القيادة حكراً على القادة والزعماء فقط، ولكن هذا غير صحيح علي الإطلاق.
وكل انسان قائد في مجاله، أو ينبغي أن يكون كذلك على الأقل. ويقول "مايكل أوسيم" مدير قسم القيادة في كلية "أورتون": "ينبغي أن يجيد كل فرد فن القيادة، أياً كان موقعه في المنظومة".
والقيادة "فن" كما يؤكد السيد "أوسيم" بمعني أنها ليست علماً يمكن الإتفاق علي تفاصيله بالإجماع، بل فن يتسم بالسمة الشخصية. ولكن يمكن الاتفاق علي قواعد أساسية فقط لهذا الفن كما هو الحال في الفن التشكيلي مثلاً، أما التفاصيل فهي تختلف من شخص إلى آخر.
ويعني هذا أيضاً أنه لا يوجد شكل أو قالب محدد للقيادة يمكن تصورها فيه، لأنها فن، والفن لا يتقولب. فيمكن جداً للقائد أن يكون ليناً متواضعاً متسامحاً لأقصى درجة -لا أعرف ماذا يمثل لك التواضع لأقصى درجة صديقي القارئ ولكن يجب ان تفكر في ذلك- وليس شرطاً أن يكون القائد خشناً متسلطاً متصدراً للمشهد طوال الوقت، بل لا يجب أن يكون كذلك، لأن قيادته ليست مستمدة من السلطة أو القوة التي تعني التحكم في أفعال الآخرين، وإنما مستمدة من الوعي كما سيتضح مما يأتي.
والقيادة التي أتحدث عنها هنا ليست هي القيادة الكاريزماتية أو القيادة بالفطرة التي يولد بها الإنسان، لأن هذا المفهوم ضيق جداً ولا يعبر لا من قريب ولا من بعيد عن القيادة بمفهومها الشامل.
بل ان القيادة التي أتحدث عنها هي مهارة يمكن إكتسابها بالتدريب ويجب أن يحرص علي إكتسابها كل إنسان، وأما نموها فهو لا نهائي. وهي عملية تبدأ من الداخل إلي الخارج ، بمعنى أن إكتساب مهارات القيادة والفعالية علي المستوى الشخصي هو الأساس الذي ترتكز عليه عملية القيادة علي المستوي المهني والإجتماعي.
والقيادة علي المستوى الشخصي تعني تحقيق الإنتصار الشخصي الذي تحدث عنه "ستيفن كوفي" في كتابه "العادات السبع للناس الأكثر فعالية" وهو الإنتقال من حالة الإعتماد علي الآخرين إلي حالة الإعتماد علي الذات في كل أمر من أمور الحياة.
الأمر الذي يعني تطور الوعي الشخصي ووجهة النظر الشخصية من حالة إلقاء اللوم علي الآخرين التي مفادها " أنت تعتني بي وتقف إلي جانبي، وإذا لم تفعل سألقي عليك اللوم إذا نزل بي خطب" إلي وجهة نظر الإعتماد علي الذات الأكثر نضجاً والتي مفادها " أنا يمكنني القيام بهذا الأمر، وأنا المسئول، وأنا أعتمد علي نفسي، وأنا من يملك حق الإختيار".
وهنا، عند هذا النضج العقلي والنفسي، تبدأ عملية القيادة علي المستوى الشخصي والتي تستمر في التطور والنمو إلي خارج حدود الشخصية وتفرض نفسها علي جميع المستويات الأخرى.
وهكذا فإن القيادة مثل شجرة تتغذى علي الوعي، وكلما أزداد الوعي ازدادت هذه الشجرة نمواً واستفحالاً.
ونحن عندما نتحدث عن الوعي نتحدث عن الإنسان ثلاثي الأبعاد الذي يتكون من جسد وعقل وروح. فالإنتقال من عالم الجسد وإدراك المحسوسات إلي عالم العقل وإدراك المعقولات يسمى وعي، وكذلك فإن الإنتقال من عالم المعقولات إلي عالم إدراك الروح هو وعي أيضاً، وفي تراثنا الصوفي يُقال أن هذا الوعي متدرج إلي مالانهاية.
وبرغم أن الإعتماد علي الذات يعتبر إنجاز عظيم في مجال التنمية البشرية وتطوير الذات إلا أن الإعتماد علي الذات ليس هو التفوق المطلق. حيث ان هناك مرحلة أخري للنضج النفسي تسمى "الإعتماد بالتبادل"، والتي تعني الإيمان الراسخ بالعمل الجماعي والتعاون بشكل تكاملي بدون الوقوع في فخ الإعتماد علي الآخرين.
ويصاحب هذه المرحلة الجديدة من النمو تطور جديد علي صعيد الوعي، حيث تكون وجهة النظر الشخصية لا "أنا في مقابل أنت" ولا حتي " نحن في مقابل هم" وانما تكون فقط "نحن" بحيث تنظر إلي كل شيء حولك من خلال هذه الكلملة فقط "نحن". وهنا تتلاشى الإختلافات وتصبح جزأ لا يتجزأ من الحياة ذاتها.
ولاشك أن الإنسان الذي يصل لهذه الدرجة من النضج يصبح نموذجاً للإنسان الأرقى. فإذا تهدم هذا العقل التنافسي الذي يفكر بطريقة "أنا في مقابل أنت،وفريقي في مقابل فريقك، والدين في مقابل العلم، ورأيي في مقابل رأيك، والعلمانيين في مقابل الاسلاميين، وديني في مقابل دينك"، فإننا بلا شك سنحصل علي إنسان أفضل وأرقي وسنقضي علي العنصرية والخلافات والحروب.
وإذا كنت تطمح صديقي القارئ في الوصول إلى هذه الدرجة من النضج أنصحك بقراءة السيرة النبوية وسير الأنبياء جميعاً، وكذلك كتاب "البديل الثالث" لـ سفين كوفي، وكتاب " سوف تراه عندما تؤمن به" لـ وين داير، وكتاب "كيمياء السعادة" لـ ابي حامد الغزالي، كما انني تأثرت كثيرا في هذا الجانب أيضاً بكتاب "الحكم العطائية" لـ ابن عطاء الله السكندري، ومخطوطة " تحفة الأكياس في حسن الظن بالناس" الرائعة للصوفي المصري علي ابن محمد المصري، وكذلك كتابات جبران خليل جبران وخاصة كتاب"النبي" وكتاب "رمل وزبد"، وعموماً فإن كل العظماء وصلوا لهذه الحالة الرائعة من التسامح والسلام الداخلي ويمكنك أن تلمس هذا في كتاباتهم.
وهنا تبرز أهمية العمل الجماعي كعامل مساعد للإرتقاء إلى هذه الدرجة من النضج العقلي والنفسي عند الإنسان، وأهمية تكوين الفريق وتغذيته بهذه الثقافة وهذا الوعي، حتي يكون لدينا جيل جديد من القادة الحقيقيين القادرين علي صناعة النهضة لوطننا ولأمتنا.
ذلك لأن النجاح لعبة جماعية مبنية علي الوعي. ويقول د. إبراهيم الفقي: "الإنسان، والحيوان، والطيور، كلها تعمل بشكل جماعي بديع، ومن يظن أنه يقدر وحده علي النجاح فهو واهم خدعه الغرور". لأن الإعتماد علي الذات طيلة الوقت يعد غروراً، والغرور يعمي الإنسان.
وهكذا يتبين أن القيادة علي مستوى الشخصي تتمثل في النضج النفسي وتحقيق الفعالية الشخصية، والسبيل إلي هذا النضج هو التنمية الذاتية بالقراءة والتدريب والإنفتاح علي العلم لأقصى درجة. وانصحك صديقي القارئ بأن يكون لك صديق أو مدرب شخصي يرشدك ويحفزك علي تطوير ذاتك.
والقيادة علي مستوى الجماعة تتمثل في النضج النفسي والثقافي لكل أفراد المجموعة، والتعاون التكاملي وسيادة روح الوحدة والتناغم بين الجميع، وذلك من خلال تغذية المجتمع الذي تعيش فيه المجموعة بثقافة "نحن".
فأنا وأنت أيها القارئ واحد. وأنت جزأ مني، وأنا جزأ منك. فإن نظرت إلي علي أنني جزأ منك ورأيتني أخطأ لن تغضب مني لأنني جزأ منك، بل ستحاول أن تجد لي عذراً، وستشعر بأنك تتحمل مسؤلية خطأي، وهذا الشعور سيدفعك إلي محاولة تصحيح خطأي، لأننا واحد، أنت هو أنا وأنا هو أنت. وبالتأكيد عندما أرى هذا منك سأتعاون وأتعاطف معك بنفس الطريقة، وهكذا سننجح في أي شيء وسنبني مجتمع أفضل.
وهذا هو الوعي الذي يجب أن ترتكز عليه القيادة الجماعية، واذا لم يكن هذا الوعي متوفراً عند أفراد المجتمع أو المجموعة، فإنه يجب العمل علي تنميته وإشاعته بينهم من خلال أنشطة وفنون لتدريب الفكر لتغيير النمط الفكري القديم بهذا النمط الجديد، وهذه هي القيادة.
والقائد هو الذي تتوفر عنده هذه المعلومة ويسعى لتطبيقها. ولا شك أنها معلومة مربحة جداً إذا تم تطبيقها علي فريق عمل أي شركة أو مؤسسة أو هيئة أو قطاع، ولقد ثبتت فعالية هذا النوع من الوعي في مجال الإقتصاد بالفعل.
ان القيادة التي ترتكز علي فكرة أن الوعي هو أساس القيادة هي ما أسميتها بالقيادة الواعية، وهذا المقال مجرد إعلان فقط عن ميلاد هذا النوع الجديد من القيادة.
شكراً علي القراءة
وأتمنى أن تشاركوني بتعليقاتكم وآرائكم حول المقال
السيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية
مدرب معتمد في تطوير الذات وإدارة الحياة