لاشك أن عصرنا هو أكثر العصور تعقيداً وصعوبة، فإذا قارنا نمط حياتنا بنمط حياة إنسان القرن السادس مثلاً أو حتى السادس عشر سنجد أن حياته كانت أبسط وأسهل بكثير من حياتنا اليوم، وبرغم التقدم العلمي والتكنولوجي الذي قدم لنا الكثير من وسائل المساعدة والراحة إلا أن هذه الوسائل في حد ذاتها أصبحت عبئاً علينا حيث أضافت الكثير من التعقيد علي حياتنا وأحتلت معظم تفكيرنا إن لم تكن استحوذت بالكامل علي عقولنا.
وهنا لابد من التوقف والتساؤل، هل نحن نقود حياتنا أم أن حياتنا هي التي تقودنا؟، وفي هذا السؤال يكمن الفرق الجوهري بين الأشخاص الفاعلون والأشخاص المنفعلون، بين الذين يعيشون الحياة كقادة مبادرون بالأفعال وبين الذين يعيشون الحياة كرد فعل فقط للأحداث من حولهم.
ولا عيب في ان يعيش الانسان كرد فعل لبعض الوقت، ولكن العيب في ان يظل في هذه الحالة مثل البركة الراكدة. وللأسف فإن هذه الحالة من الركود وانعدام الفعالية منتشرة جداً في مجتمعنا منذ وقت طويل وربما أصبحت جزأ من ال DNA الخاص بنا. وبالتأكيد هناك أسباب أدت إلي هذه الحالة مثل مشاكل الكساد الاقتصادي وإنحدار التعليم في طوال العقود الماضية، وإنحطاط الإعلام أيضاً الذي غطي علي هذه المشاكل الكبيرة وحجبها لسنين طويله.
ونتيجة لهذه المشاكل وما أفرزته من مشاكل أخري أصبحنا أجهل الأمم بتطورات عصرنا، وانا أجد أنه من الشجاعة أن نعترف بهذا الجهل الذي عندنا حتي نضع له حداً، وحتى نثبت أننا أصبحنا منفتحين علي العلم والتعلم.
وهذه هي أول صفات القائد التي أود أن أتحدث عنها وخصصت لها هذا المقال، وهي صفة الإنفتاح علي العلم والتعلّم، فإذا كنت تريد أن تكون قائد لحياتك وللآخرين فعليك أولاً بالإعتراف الصادق بجهلك بالكثر من الأشياء بل وكل الأشياء، لأن هذا الإعتراف يعني ضمناً أنك منفتح علي قوة هائلة هي قوة العلم.
لأن الشخص الذي يجد حرج في طرح الأسئلة سيكون بلاشك أقل معرفةً وأقل سيطرةً علي الأمور في حياته من الشخص الذي يملك الجرأة علي طرح الأسئلة، لأن المعرفة قوة تمنح مالكا السيطرة والسلطة، بل ان المعرفة هي جوهر عملية القيادة. يقول ستيفن كوفي عن القائد: " القائد هو الشخص الذي يتسلق أعلى شجرة ويقوم بعمل مسح شامل للموقف"، ولاشك في أن أعلى شجرة يمكنك تسلقها لعمل هذا المسح الشامل هي شجرة العلم.
والقائد هو الذي يقرأ علي الأقل لمدة ربع ساعة يومياً، وهو الذي يحضر علي الأقل محاضرتين شهرياً، ودورة تدريبية علي الأقل في السنة الواحدة، وكلما أزدادت مدة القراءة وعدد المحاضرات والدورات التدريبية التي يحضرها أصبح أوسع معرفةً ووعياً، وتزداد سطوة شخصيته ويصبح أكثر سيطرة وتحكم علي حياته الشخصية والمهنية.
وهذه الصفة هي أم المهارات، وهي حاسمه، خصوصاً في المناصب القيادية، لأنها هي الرؤية والإستكشاف، وهي زرقاء اليمامة حادة النظر التي تستكشف الطريق لأبعد مدى، ولقد كان الخطأ الذي أدى إلى غرق سفينة التايتنك الشهيرة هو عدم وجود قيادة تستكشف الطريق، فالقيادة هي الإستكشاف والإستكشاف هو العلم.
ولكن كيف يمكن قياس هذه الصفة في شخص القائد؟، إذ لابد من وجود معيار يمكنني من خلاله إختيار القائد بناءً علي مدى إنفتاحه علي العلم.
يمكن قياس مدى إنفتاح القائد علي العلم بعدة طرق مجتمعة أو بطريقة واحدة منفردة من الطرق الآتية؛
1_ نوعية وعدد الدورات التدريبية المدونة في سيرته الذاتية، وكذلك الكتب التي تأثر بها، كما يدل حرصة علي إضافة بند الكتب التي تأثر بها في سيرته الذاتية علي إدراكه لدور القراءة ولأهمية العلم والتعلم.
2_ توجيه سؤال في إستمارة التوظيف مثل " ماذا تعرف عن الإيجو؟ "، وستدل إجابته علي درجة وعية، ومدى إطلاعه وفهمه، وكذلك نوعية المصادر التي يعتمد عليها، ولابد أن يكون الشخص القائم علي عملية التقييم أكثر إلماماً وفهماً بموضوع السؤال، فمثلاً إذا كان الشخص القائم علي التقييم لا يعرف شيئاً عن الإيجو كيف سيُقيّم مستوى الوعي بناء عليه، لذلك فمن الأفضل أن يكون الشخص المُقيّم هو نفسه واضع السؤال، بحيث يكون أكثر إلماماً وفهماً لموضوعه، كما يجب أن يكون السؤال قريباً من تخصص الشخص المتقدم للوظيفة ويكون بهدف قياس مدى إطلاعه وإهتمامه بفكرة القراءة والإطلاع.
3_ إلقاء نظرة علي صفحة الشخص المتقدم للوظيفة القيادية علي مواقع التواصل الإجتماعي، لأن هذه المواقع تعكس الكثير من جوانب الشخصية وخصوصاً الجانب الثقافي.
4_ يقول سقراط: " تكلم حتى أراك" مما يعني أن طريقة تعبير الشخص تعبر عنه شخصياً، لذلك يمكن قياس مدى إنفتاح القائد علي العلم من خلال كتاباته إذا كان يكتب، أو من خلال طلب كتابة قطعه عن موضوع محدد في إستمارة التوظيف، ومن خلال هذه القطعة يمكن تقييم مدى ثراء الشخص بالمعلومات أو مدى إفتقاره إليها، ولابد أيضاً أن يكون المُقيّم هو نفسه واضع موضوع الفقرة بحيث يكون أكثر إلماما به.
5_ تكليف القائد بمهام بحثية، مثل تقديم ورقة عمل أو بحث عن موضوع محدد مع تحديد محاور للموضوع. وهذه الطريقة يفضل إستخدامها كمعيار عند ترشيح القائد للترقي من منصب قيادي إلى منصب قيادي أعلى، كما أن هذه الطريقة تستخدم في المؤتمرات العلمية بهدف مزدوج هو إختيار المشاركين في المؤتمر وفي نفس الوقت إثراء المؤتمر بالرؤى الجديدة، كما يعد النظر إلى عدد المؤتمرات العلمية التي شارك بها القائد في سيرته الذاتية مقياس لكفائته العلمية ولكن ليس بنفس قوة تكليفه بالمهام البحثية.
هذا المعيار يعتبر بسيط، ولكنه إضافة جديدة لمجال إدارة الموارد البشرية، حيث أنني بحثت عن معيار لهذه الصفة القيادية الهامة ولم أجده، فقررت أن أضعه بنفسي، وإن شاء الله سأعمل علي تطويره في المستقبل.
كما أن إلقاء الضوء علي هذه الصفه منفردة من صفات القيادة لم يلقى الإهتمام الكافي في معظم الكتب التي تحدثت عن القيادة ، كما أن صفة القائد لابد أن تكون مناسبة لإحتياجات مجتمعنا الملحه، ولا شك أن ما نحتاج إليه هو قائد يتعلم ويحترم العلم ويشجع فريقه علي العلم والتعلم، لأن تمركز الجهل في المناصب القيادية أمر خطير يؤدي بلا ريب إلي خسائر كبيرة.
وأما علي المستوى الشخصي فإن مثلث السلوك البشري مكوّن من ثلاث أضلاع، الأول هو العلم، والثاني هو الرغبة، والثالث هو المهارة، وهذا المثلث هو الذي يتحكم في عاداتنا، فإذا أردت إكتساب عادة جديده عليك أولاً أن تكتسب معلومات حول هذه العادة، وهذا هو ضلع العلم، وبناء علي المعلومات ستتشكل الرغبة لديك في إكتساب هذه العادة، وهذا هو الضلع الثاني من المثلث، والعلم والرغبة هم ما سيدفعانك إلي إكتساب المهارة اللازمة لهذه العادة. وكما ترى فإن أهم ضلع في المثلث هو ضلع العلم، وهو ضلع القيادة علي المستوى الشخصي.
وهذا الضلع هو ما أردت إلقاء الضوء عليه بشكل منفرد لأنه في رأيي الأهم من بين كل الصفات القيادية الأخرى، وهو جوهر القائد الحقيقي الفعال، لذا ينبغي أن نركز عليه في مجتمعنا حتي نستطيع تحريك عجلة التنمية بسرعة في إتجاه النهضة التي ننشدها.
شكراً علي القراءة