تأملات إنسانية
أتأمل زحام الناس، وأختلس النظرات إلى وجوههم لأنني من هواة قراءة الوجوه. كل إنسان لدية علامات خفية في وجهه تكشف عن مكنوناته. وكل إنسان يستطيع أن يقرأ من خلال ثقته في حدسه لغة الوجوه تلك.
أحاول ان أفهم مشاعرهم من خلال تلك العلامات التي لا أراها ولكن حدسي يعرفها جيداً لدرجة لا أستطيع تصورها. أعرف أن كل منهم يستطيع بنظرة خاطفة أن يقرأ مشاعري الحقيقية أنا الآخر حتى ولو حاولت تزييفها بأبرع الطرق، وحتى لو تقنعت بمئات الأقنعة، ففي النهاية ستسقط الأقنعة سهواً.
الأمر يشبه قصة الديك الرومي الذي قرر ذات يوم أن يهجر منطقة الديوك وأن يذهب الي منطقة الطواويس المجاوره، وعندما ذهب كانت الطواويس في الخارج ووجد كومة من ريش الطواويس علي الأرض فأخذ يلصق الريش علي ظهره ظناً منه أنه سيستطيع خداعهم وجعلهم يعتقدون أنه طاووس مثلهم، وعندما عادت الطواويس أخذ يقلدهم في مشيتهم وتفاخرهم بريشهم ظاناً أنهم لن يكتشفوا أمره، ولكن الطواويس لم تنخدع ونزعوا عنه الريش ونقّروه في رأسه عقاباً له علي فعله.
وهكذا نحن البشر، لا يستطيع أحد أن يخدعنا إلا بإرادتنا، فمن يشعر بالشغف نشعر بشغفه ومن يُمثّل دور الشغوف نعرف أنه يُزيّف حقيقة مشاعره ويُحاول أن يخدعنا.
كل إنسان لدية قوة خفية لإختراق الآخر وقراءة مشاعره، كل إنسان لديه وسيلة تواصل أخرى أقوى من الكلام. غير أن هذه الوسيلة تتطلب الثقه في حدسنا والإصغاء إلى قلوبنا.
أتأمل وجوه الناس وأنظر إلي أعينهم، تكشف العيون أيضاً عن أشياء كثيرة في مكنوناتهم، وقد يُختزل فيها كل تاريخ الإنسان، كل نجاحاته وإخفاقاته، كل اللحظات السعيدة التي مر بها وكل اللحظات الحزينه، وتعكس العيون أيضاً كل مخاوفهم وأمانيهم وتعكس أيضاً قوة أرواحهم.
كل إنسان لديه مخاوف لا تحصى ولكنه قادر علي نسيان مخاوفه لبعض الوقت، وأكثر ما يخيفه هي تلك اللحظة التي يحين فيها موعد المواجهه مع ما يخافه، وإلي أن تحين هذة اللحظة عليه أن ينسى وأن يحصل علي نصيبه من المتعة. الكل يخاف من دقات قلبه لأنها تذكره بالزمن وتذكره بتلك اللحظة الحاسمة التي لا مفر منها.
الكل يبحث عن شئ يشغله عن نفسه، يسمع الأغاني، يهاتف صديق، يذهب إلي الشارع، يقرأ كتاب، يفتح التلفاز لا بغرض المشاهدة بل فقط بغرض إحداث ضجيج يحول بينه وبين الصمت، كل هذا بهدف الهروب من اللقاء الصامت مع نفسه.
الكل يرضى بالقليل حتي لا يدفع الثمن، يعرفون أن لا شئ مقابل لا شئ، ويعرفون أن للأحلام والتطلعات ثمنها، القليل من الناس فقط هم من يجازفون ويحلمون بأحلام كبيرة، والقليل منهم هم المستعدون لدفع حياتهم ثمناً لأحلامهم، أما الأكثرية العظمى فيرددون عبارات مثل " أحلم علي قدك " و " علي قد لحافك مد رجليك " وغير ذلك من العبارات التي تقتل الحلم قبل أن يولد وتقتل العزيمة الإنسانية علي تحقيق أي شئ، وهؤلاء الناس يعيشون ولكنهم ليسوا بأحياء.
أتأمل كلمات الناس وأجد أن أغلبها إنتقادات وإصدار أحكام فورية علي الآخرين، ولو أن كل إنسان في مجتمعنا يملك السلطة لتنفيذ أحكامه التي يصدرها علي الآخرين لشنق مدينته التي يسكن فيها بالكامل وعاش فيها وحيداً، ومع الوقت قد يعيش وحيداً في هذا العالم. ولما لا ؟، ألم يقتل قابيل هابيل وهو أخاه ؟، ألسنا جميعاً من نسل قابيل ؟
إننا نقتل بعضنا البعض بالكلمات في كل يوم، ونقتل أحلام بعضنا البعض في كل يوم، ونحارب بعضنا البعض حرباً نفسيةً خفيةً ماكره، نصنع من الإبتسامة سلاحاً لا دواءً ومن الصداقة فخاً لا ملاذاً، والأكثرية الهائمة من البشر لا يدركون أننا نشجع أنفسنا عندما نشجع الآخرين، ونُحيي أحلامانا عندما نساعد الآخرين علي إحياء أحلامهم، ونُظهر جمالنا عندما نمنح الآخرين الإحساس بالجمال.
الكل يُلقي باللوم وبكل ما هو سئ دائماً علي الآخرين، فالذي يحقد ويحسد ويكره ويطمع ويخطأ ويستحق العقاب والعذاب دائماً هو الآخرين، والثلة القليلة من الناس فقط هم الذين يعرفون حقيقة أننا نصف أنفسنا من خلال وصفنا للآخرين.
كل إنسان بداخله شيطان وملاك، وهناك معركة دائرة في عالم الميتافيزيقا بين الملائكة والشياطين، والإنسان ساحة لهذة المعركة.
بقلم أ/ سيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية