نهانا الله تعالي عن الظن، فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (12)[1] " والظن هو الحكم بترجيح رأي علي الآخر بدون التحقق من صحته[2]، وهو بذلك نقيض الحق، حيث أن الحق وسيلته التحقق والتأكد أما الظن فهو تخمين أو إدعاء أو إتهام بدون تأكد، قال تعالى: " وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)[3] "، والظن نقيض العلم أيضاً لأنه حكم إعتباطي لا علّيّة له ولا تبرير، أما أحكام العلم معلولة ومبررة وفقاً لأصول وخصائص المنهج العلمي[4]، قال تعالى: " قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)[5]"، ومفهوم الظن بذلك يشبه مفهوم الجهل من حيث البعد عن الحقيقة، ولكن الجهل هو عدم المعرفة بينما الظن هو معرفة ولكنها معرفة ظنّية غير يقينيّة، وهذه المعرفة قد يكون مصدرها الهوى أو الحدس أو الشيطان أو خلل في المخ أو أي شيء آخر. فالجهل عَمى أم الظن فهو زيف وخديعة.
ونحن نجد في قصص القرآن أمثلة علي هذه الخديعة مثل قصة الرجل الذي أعطاه الله فجحد، قال تعالى: " وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)[6]"، ويتضح من الآية ان هذا الرجل عاش مخدوعاً بظنّه فخسر خسراناً كبيراً، وهل هناك خسران أكبر من أن يبنى الإنسان حياته علي ظنون خادعة مُضللة يكدح ويكافح من أجلها ؟!، قال تعالى: " قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)[7]"، وهنا يضع القرآن الإنسان في مواجهة نفسه وفي مواجهة الحياة بأسرها، ليعيد حسباته بالكامل وينظر في سعيه وفي صنعه، ويُبرز له خطورة رؤيته الكونية[8] للحياة وما ترتكز عليه هذه الرؤية من معتقدات وثوابت ومنطلقات ومرجعيات تُشكّل منظوره المعرفي للكون الذي يعيش فيه، ومن ثم أيديولوجيته ونمط حياته، ولاشك ان هذه الرؤية الكونية تُشكّل في النهاية مصيره، وإذا كانت ترتكز علي الظن فإن هذا المصير سيكون بلا شك ضبابي وغير مضمون، لأن الظن إما أن يقود الإنسان إلى مزيد من الظن الذي ما هو إلا مجرد تخمين ووهم وإما أن يقوده إلي اليقين في حالة نقاء قلبه وسلامة صدره، ولكنه غالباً يقوده إلي مزيد من الظن إذ ان الحقائق التي يصل إليها بالظن تظل ظنوناً أيضاً.
وحتى إذا قادنا الظن إلي معرفةٍ يقينية فإن هذا اليقين نفسه مهما عظم شأنه يكون في حكم الظن ولا يخرج عنه، ولقد ورد لفظ الظن في القرآن بمعنى اليقين، ولكنه في نفس الوقت لم يخرج عن دائرة المعرفة الظنية، قال تعالى: " أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)[9]" وكذلك في قوله: "الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)[10]"، وقال الطبري: "الظن هنا بمعنى اليقين"[11]، ولكنه يقين ناتج عن المنهج الظني وليس العلمي، والقرآن دقيق جداً في التمييز بين المنهجين، وحريص علي التفرقة بين الذين يوقنون انهم سيبعثون بواسطة الظن والذين يوقنون انهم سيبعثون بواسطة العلم، ولا شك ان ذلك لإختلاف مكانتي العلم والظن عند الحق سبحانه وتعالى، فالعلم أشرف من الظن، بل يحاجي الله به الظنيّون بقوله: " قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ "، كما أنه يرفع صاحبه إلى درجة الشهادة علي الحق مع الملائكة، قال تعالى: " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)[12]"، والآيات كثيرة في فضل العلم، ولا شك ان الأمر بإجتناب الظن يتضمن في أحشائه الحث علي العلم والإلتزام بالمنهج العلمي القائم علي التحقق والتثبت والذي يتدرّج من المعلوم إلى المجهول لإستكشافه من خلال التفكير العلمي وخصائصه مثل السبب والنتيجة والملاحظة والتجربة وغير ذلك من خصائص المنهج العلمي.
بقلم أ/ سيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الحجرات 12
[2] العسكري: أبو هلال/ الفروق اللغویة تحقیق أبو عمرو عماد/المكتبة التوفیقیة/ مصر، ص 101 –102 .
[3] النجم 28
[4] انظر خصائص التفكير العلمي/في فلسفة العلوم ومناهج البحث إعداد د. حسن عبد الحميد و د. محمد مهران/كلية الآداب جامعة عين شمس/مصر، ص 10 ــ 11
[5] الأنعام 148
[6] الكهف 35 - 36
[7] الكهف 103 - 104
[8] الرؤية الكونية مصطلح فلسفي صاغة الفيلسوف الألماني ديلتاي ثم توسع علماء الاجتماع والانثروبولوجيا في صياغته بعد ذلك راجع ويكيبيديا
[9] المطففين 4
[10] البقرة 46
[11] الطبري : أبو جعفر محمد بن جرير/ جامع البيان عن تأويل آي القرآن/ تحقيق أحمد محمد شاكر/ دار الإعلام: الأردن/ ط1/2002م/ 1/344ــ345.
[12] آل عمران 18