يظُن معظم الناس ان الحياة تتكون من شيئين اثنين هما الكائنات والأشياء، وما البشر إلا كائنات تستخدم أشياءً، كما أن مفهوم الذكاء مرتبط بحيازة وامتلاك الأشياء في الثقافة السائدة، وهكذا فإن عليهم أن يتسابقوا ويتنافسوا فيما بينهم علي حيازة الأشياء لأنها كما يظنون دليل علي القوة والذكاء، وليس ذلك فحسب بل إن الأشياء أصبحت جزأ من كينونتهم، فهم يكونون أشيائهم وأشيائهم تعبر عنهم.
وهيمنت وجهة النظر هذه علي الأغلبية الساحقة من بني البشر في كل أنحاء الكوكب وكأن الشيطان وضعها في ماء جميع الأنهار ولم ينجو منها إلا ثلة قليلة من البشر هم الأنبياء وبعض العلماء، ولكنهم لم يستطيعوا تخليص البشرية من هيمنة تلك الفلسفة السوداء.
وبسبب هذة الفلسفة التي تحرض علي التنافس والتناحر والتي تفسر العالم علي أساس مفهوم مضلل للذكاء دارت الحروب فيما بين البشر أفراد وجماعات وأمم، فالقوة تعني إمتلاك المزيد من الأشياء وكذلك يعني الذكاء، والكل يريد الحصول علي القوة والذكاء والمزيد من الأشياء، وسادت الفوضى.
وبينما كان الإنسان يقتل جاره طمعاً فيما عنده، عكف المتنورون من البشر علي التفكير في حل لهذه الأزمة وكان الحل الذي اهتدوا إليه هو ما يسمى الآن في علم الإجتماع والفلسفة السياسية بـ" نظرية العقد الإجتماعي ".
وبختصار شديد فإن هذه النظرية عبارة عن عقد بين طرفين، الطرف الأول هو الشعب والطرف الآخر هو الحاكم، وينص هذا العقد علي أن يتنازل الطرف الأول وهو أفراد الشعب لصالح الطرف الثاني وهو الحاكم عن جزأ من حريتهم مقابل أن يتكفل الطرف الثاني بحمايتهم إدارة شؤنهم. وكان هذا العقد أيضاً شهادة ميلاد لما يعرف الآن بالدولة، فمثلما تبدأ الأسرة بعقد زواج بدأت الدولة بعقد إجتماعي بين الشعب الحاكم.
وهكذا وجد فلاسفة هذا العصر علاجاً للأزمة، أزمة الفوضى، ولكن ظلت الفلسفة السوداء السبب الرئيسي لهذه الفوضى مدسوسة في رؤس البشر، إذ أنهم ظلوا مؤمنين بفكرة التنافس وبفكرة أن الحصول علي الأشياء يعني الحصول علي القوة والذكاء. وعلي هذا الأساس الفلسفي والفكري والثقافي قامت الدولة.
ولأنه أصبح هناك دولة وحاكم وأدوات تقمع أطماع الإنسان في التعدي علي حقوق غيرة، إتخذت الأطماع لدى الإنسان تنوعات وأشكال أخرى غير فكرة التعدي علي حقوق الغير. منها أشكال التنافس المتعددة بين الأفراد وبين الدول أيضاً في مجالات العلم والتكنولوجيا والتسليح والنووي وغزو الفضاء والعمل والدراسة وإلخ ..
ولكن ماذا إذا تغير الأساس الفلسفي الذي قامت عليه الحضارة ؟، ومن أين جاءت تلك الفلسفة السوداء التي ربطت مفاهيم أساسية مثل الذكاء والقوة بالتنافس والصراع والحروب ؟ وماذا إذا استطعنا الرجوع إلي الخلف إلي عصر التنشأة الفكرية والفلسفية للبشر وقمنا بتغيير هذه المفاهيم الأساسية مثل معني الذكاء ومعني القوة، فنجعل معني الذكاء مثلاً هو الحب أو المقدرة علي العطاء أو المقدرة علي الإحتفاظ بالأمل والبسمة والتفاؤل، أو المقدرة علي فعل الخير، ماذا إذا كان هذا هو معني الذكاء؟
وماذا إذا استطعنا الرجوع إلي الوراء لنغير معني القوة، فنجعهل القوة تعني قوة الإرادة والصبر أو أنها القدرة علي حماية الآخرين وحقوقهم أو أن القوة تعني المقدرة علي حب كل شئ وأي شئ، أو هي المقدرة علي إسعاد الآخرين دون تمييز عرقي أو ديني بينهم، أو أنها المقدرة علي العمل بإخلاص. ماذا إذا كان هذا هو معني القوة الذي يعرفه الإنسان ولا يعرف غيرة ؟
ماذا إذا كانت هذه المفاهيم هي الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه الدول والحضارات؟، هل سيكون العالم أفضل ؟.
بقلم أ/ سيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية