يظن أكثر الناس أن مصطلح الإدمان مقتصر على
المخدرات فقط وعلى تلك الفئة الضالة من الناس الذين يتناولونها، ولا يعرفون أن أي
شيء في حياتهم اليومية يمكن أن يتحوّل إلى إدمان، إدمان لا يقل خطراً عن إدمان
المخدرات، إدمان يأسرهم ويعيق نموهم وتقدّمهم في الحياة دون أن يدركوا ذلك.
وهنا يسأل السائل، كيف يمكن للأشياء
المفيدة أن تتحول إلى لعنة تعطّل الإنسان وتُعيق تقدُّمه في الحياة؟
كيف يعقل أن يدمن الإنسان أي شيء؟، وهل
للإدمان يد في الأمور التي يعاني منها الإنسان مثل الفشل والفقر والأزمات؟
في هذا المقال سنجيب بإذن الله علي كل هذه
التساؤلات وأكثر، ونأمل أنا نضعك عزيزي القارئ أمام الحقيقة، كما نأمل أيضاً أن
تتقبلها. وجدير بالذكر أن الحقيقة لها أشكال وتنوعات متعددة، كما أنها لا توجد
أبداً كاملة، وما سنعرضه هو فقط بعض الحقيقة.
الإدمان هو الإدمان:
في البداية يجب أن نؤكد علي أن الإدمان هو
الإدمان، بمعنى أن إدمان الانترنت أو إدمان الأكل أو النوم أو الجنس أو العمل أو أنواع
الإدمان الأخرى والمتعددة لا يقل خطورة عن إدمان المخدرات بأنواعها المختلفة
الحشيش والبانجو والهيروين والأفيون ! ، بل قد يكون التعامل مع إدمان المخدرات
أسهل من بعض أنواع الإدمان الأخرى، لأن الفرق بين إدمان المخدرات والأنواع الأخرى
من الإدمان هو أن المخدرات إدمان ظاهر يمكن ملاحظة مظاهره بالإدراك الحسي، أما
الأنواع الأخرى من الإدمان تكون إدمان باطني خفي مستتر وراء ثقافة أو دين أو مبررات
أخرى خادعة.
ومن أسماء الله الحسنى أنه الظاهر والباطن،
ولكل شيء في الحياة جزء ظاهر وجزء آخر باطن، ودائماً ما يكون الجزء الباطن أكبر
بكثير من الجزء الظاهر، والعقل الباطن عند الإنسان يمثل 90% من عقله بينما يمثل
العقل الواعي 10% فقط، ما يعني أن 90% من حياة الإنسان باطني خفي خارج عن دائرة
الإدراك الحسي.
ولذلك أردنا أن نسلط الضوء على الإدمان
بجزأيه الظاهري والباطني ونلفت الأنظار ناحية الأنواع الأخرى من الإدمان التي تقع
خارج دائرة الشعور والإدراك الحسي الإنساني، والتي تشغل حيزاً يقدّر بتسعين
بالمائة من مجمل حياتنا.
وإذا كان مدمن المخدرات يجعل للمخدر الأولوية
العظمى في حياته ويعطيه جل وقته وجهده وتركيزه وبذلك يخسر صحته بالإضافة إلي أشياء
أخرى في حياته بسبب انصرافه عنها وإهمالها، فإن مدمن الشيء الآخر من غير المخدرات
يجعل لهذا الشيء نفس الأولوية التي تصرفه عن أمور أخرى مهمة في حياته، ولكن ما
يزيد المشكلة تعقداً هو أن ذلك النوع الأخير من الإدمان – ادمان الأشياء الأخرى من
غير المخدرات - يبقى غير مُكتَشف علي أنه مشكلة أو إدمان له خسائره مما يجعل الشخص
يستمر عليه ويتعايش معه ومع خسائره التي تسبب له المعاناة ظاناً أن هذه هي الحياة،
وللحق فإنها ليست إلا حياة زائفة صنعها الجهل وثقافة التشبث بالأشياء وحب الحصول
عليها حتى وقعنا فيما يشبه عبوديتها. لذلك فإن أنواع الإدمان الأخرى قد تكون
أحياناً أكثر ضرراً من ادمان المخدرات.
مفهوم الإدمان وإعادة صياغته من جديد:
ومما يدعو للأسف أن مصطلح الإدمان في الثقافة
السائدة دائماً يشير إلي نوع واحد فقط من الإدمان وهو إدمان المخدرات، ولا يستخدمه
بمعناه الواسع إلا ثُلّة من المتخصصين والأكاديميين، ما يعني أن هناك تحجر وجمود
في فهم مفهوم الإدمان لدى العامة، ولا شك أن هذا التحجّر هو ما يمنعنا من رؤية
الحقيقة بوضوح والعيش في كنفها، والكثير من المعاناة.
اننا بحاجة ماسة إلي فحص الكثير من المفاهيم
في ثقافتنا وإعادة صياغتها من خلال التفكير الدقيق والتأمل وربط الشيء بكل شيء،
حتى نكون أكثر وعياً بحقائق الأشياء، وحتى نتخلص من تلك النقاط العمياء في بصيرتنا
والتي تسبب لنا الكثير من المعاناة.
لذلك علينا أن ننطلق وأن نوجّه قوة تحرّكنا
نحو استكشاف مثل هذه الحقائق الغائبة عنّا وعن شباب أمتنا والتي من شأنها أن تنير
لهم الطريق نحو مستقبل أفضل، وعلينا أن نحاول مراراً وتكراراً إعادة صياغة مثل هذه
المفاهيم بما يُجلي بصرنا وبصيرتنا، وأن نكرر المحاولات.
ومفهوم الإدمان من أهم المفاهيم العامة التي
ينبغي علينا إعادة صياغتها من جديد، لأنه مفهوم واسع يتسم أول ما يتسم بشموله الذي
يغطي كافة مناحي الحياة، كما يتسم أيضاً بقابليته للحث من الخارج كما سيتضح فيما
يلي، ويتسم أيضاً بالعجز الذي يعيق الشخص من الاعتراف به ومواجهته، ويتسم أيضاً
بأنه كلٌ تنسجم جميع أجزاءه مع بعضها البعض مما يجعل مشكلة الإدمان أكثر تعقيداً،
وهذه هي أبرز السمات التي أردنا القاء الضوء عليها لأنها تمثل الخطوط العريضة التي
لفلسفة الإدمان.
شمولية الإدمان:
مفهوم الإدمان هو مفهوم واسع لدرجة أنه قد
يشمل كل شيء وكل أمر وكل نشاط من شأنه أن يثير رغبة الانسان ويجذبه إليه، ولا شك
أن الأشياء والأنشطة والأمور التي تثير رغبة الانسان كثيرة جداً لدرجة أنها لا
تحصى، بعضها مفيد طبعاً، وبعضها الآخر غير مفيد وقد يكون أحياناً ضاراً للإنسان.
ولكن حتى الأشياء المفيدة عندما يستخدمها
الانسان بشكل مُفرط ويقع في الإدمان عليها فإنها تفقد جودتها وفائدتها للإنسان
وتتحول إلي لعنة، وقد تظل مفيدة في ذاتها مثل إدمان العمل مثلاً، فالعمل مفيد ويظل
مفيد في ذاته، ولكنه عندما يتحول إلي ادمان يتسبب في الكثير من الخسائر الصحية
والاجتماعية الاخرى التي تعم علي حياة الشخص المدمن للعمل، وإدمان الانترنت، فالإنترنت
أيضاً مفيد ولكن عندما يدمن عليه الانسان يصبح لعنة تتسبب في الكثير من الخسائر
الاخرى. وهكذا فإن الإدمان في ذاته هو اللعنة التي تحل على الأشياء والأمور بمجرد
الإفراط في استخدامها والإدمان عليها.
وهكذا يتضح المعنى الأعم والأشمل للإدمان
والسمة الأبرز التي يتسم بها وهي السمة الشمولية، أي أنه يمكن أن يشمل كل شيء في
حياة الإنسان طالما توفّرت لدى الانسان الرغبة في ذلك الشيء واستجاب لنداء رغبته
تلك.
وهذا يعني أن الانسان يمكن أن يقع في إدمان
أي شيء تقريباً، ممكن أن يقع في إدمان فكرة مجرده لشيء يرغبه مثل إدمان بعض نواع
السرحان، أو قد يقع الانسان في إدمان سلوك معين مثل إدمان القمار أو بعض أنواع
السلوكيات أو الأنشطة الاخرى مثل إدمان العمل وإدمان الإنترنت وإدمان الجنس وادمان
الأكل وغيرها، وقد يقع الإنسان في إدمان شخص ما، فقد يدمن زوجة أو زوج أو ابن أو
ابنة أو صديق أو صديقة، أو أي شخص في محيطه الاجتماعي يستجيب له باستمرار بأي شكل
من أشكال الاستجابة.
ليست الرغبة ولكنها الاستجابة:
وجدير بالذكر أن ما يجعل من الشيء إدماناً هو
كثرة استجابات الانسان لذلك الشيء ما يعني الاستخدام المفرط، حتي تصبح الرغبة في
الاستخدام أو الاستجابة لذلك الشيء أقوى من قدرة الشخص علي كبحها. وصحيح أن عامل
الرغبة مهم لأنه هو ما يجذب الإنسان نحو الشيء موضوع الإدمان، ولكن عامل الاستجابة
هو الأهم في عملية تكوين السلوك الإدماني، وليس من الضروري أن يرغب الانسان الشيء
حتى يدمن عليه ولكن من الضروري أن يستجيب له بشكل متكرر حتى يتحول إلي إدمان.
للإدمان أشكال أخرى صادمة:
وقد يدمن الانسان شيئاً لا يرغبه بدون وعيٍ
منه، وكثيراً ما يحدث هذا، ولكنه يدمن عليه لأنه استجاب له بشكل متكرر لفترة كافية
لتكوين السلوك الإدماني لديه، قد يدمن الانسان شخصاً ما عدوٌ له، وقد يدمن مشكلة
ما، وقد يدمن علي حالة الأزمات، وقد يدمن علي الفقر، وقد يدمن الانسان أيضاً
الخضوع للسلطة، وقد يدمن رئيسة المتنمّر في العمل والذي يكرهه، والسبب في ذلك يرجع
إلي عدم قدرته علي قول لا واستجاباته المتكررة له، وقد يدمن الانسان أيضاً الجوع،
وكثيراً ما انتشر هذا النوع من الإدمان والمعروف بـ ( إدمان فقدان الشهية ) بين
السيدات اللائي يعانين من النحافة، وإذا قمنا بتوسيع مفهوم الادمان أكثر سنجد انه
ينسحب علي الكثير من الأشياء الأخرى في حياتنا، وسنجد أن الفشل ما هو إلا حالة إدمان
علي الفشل، وأن الفقر ما هو إلا حالة إدمان للفقر، وأن الحاجة ما هي إلا نوع آخر
من الإدمان، وسبق أن ألقينا الضوء علي هذا الجانب في مقال سابق كان بعنوان "إدمان
الجفاف".
الإدمان المستحث من الداخل والإدمان المستحث من الخارج:
ان كل شيء نتعلّق به، سواءً كان جيداً أم
سيئاً، بوعي أو بدون وعي منّا، رغبناه أم لم نرغبه، ما هو إلا إدمان من ادماناتنا
المتعددة، وكثيرةً هي الأشياء التي تعلقنا بها وأدمناها وتعايشنا مع إدمانها، منها
ما هو مستحث من داخلنا ومنها ما هو مستحث من خارجنا.
والإدمان المستحث من الداخل يكون مصدره
الأساسي هو رغبة الإنسان وإرادته الحرة، أما الإدمان المستحث من الخارج يكون ناتج
عن مصدر خارجي يؤثر علي رغبة الإنسان ويوجهه نحو إدمان شيء أو منتج بعينه بهدف
جعله مستهلكاً لهذا المنتج، وهناك أمثلة كثيرة علي ذلك منها إدمان التبغ، وإدمان
الكولا، وإدمان الشكولاتة وإدمان الوجبات السريعة .. وغيرها من أنواع الإدمان المتعمّد
والموجّه الذي تستخدمه الشركات من أجل احتكار المستهلك وزيادة نسبة المبيعات.
والغاية عند هذه الشركات تبرر الوسيلة، فبالإضافة
إلي أن المنتج نفسه يحتوي علي مواد إدمانيه مثل الكافيين والنيكوتين، تجد أن هذه
الشركات تلجأ إلي أنواع خطيرة جداً من الدعاية الغير مباشرة مثل وضع رسائل لا
إدراكية مثلاً في بعض نسخ الأفلام بهدف غرس الرغبة في عقل المشاهد دون أن يدرك
ذلك، ويشعر المشاهد وهو يشاهد الفيلم أنه ربما يريد أن يشرب كوكاكولا علي سبيل
المثال، أو أنه ربما يريد أن يأكل شيئاً، أو ربما يريد أن يدخّن التبغ، وهذا النوع
من الدعاية يعتمد علي علوم الدماغ وقوانين عمل العقل البشري، ويتم فيه ذرع الرغبة
الملحة في داخل العقل الباطن للمستهلك لحثه علي شراء المنتج دون اي اذن أو وعي منه.
وربما لا نجد أي اعلانات مباشرة للتبغ، ولكن
الأفلام والمسلسلات مليئة بالإعلانات الغير مباشرة التي تحث المشاهد علي التدخين
وشراء التبغ، وهذا النوع من الاعلانات الغير مباشرة اكثر تأثيراً وأكثر فعالية من
الاعلانات المباشرة، لأنه يستخدم الإيحاء ذرع الذكريات الوهمية وغرس الرغبة الملحة
في العقل بدون إدراك المتلقي لذلك.
ولا
شك أنها طريقة ميكيافيلية غير شريفة وغير شرعية لزيادة المبيعات، ولكنها للأسف
الشديد منتشرة بفضل غياب الرقابة الواعية علي المنتجات، خصوصاً في بلادنا التي
تمتصها تلك الشركات وتتغذى عليها.
العجز المقنّع:
وكما يتسم الادمان بالشمول يتسم أيضاً
بالعجز، بمعنى أن المدمن علي الشيء يعجز عن التخلّي عن ذلك الشيء، يعجز عن أن يضع
حداً لاستخدامه المفرط أو لاستجاباته التي أصبحت تلقائية اوتوماتيكية لهذا الشيء، ويعجز
عن قول لا عندما يناديه ذلك النداء، وأحياناً يعجز عن التفكير في ترك ذلك الشيء أو
التفكير فيه كإدمان يسبب له الخسائر، أو التفكير فيه كمشكلة من أجل تجنّب الإزعاج.
وكثيراً ما ترفض عقولنا الحقيقة لأنها مؤلمة، والعقول تكره الألم، وتتفنن في أشكال
الرفض، تتفنن في خدعنا.
لذلك فان المدمن لا يعترف بعجزه برغم شعوره
بالعجز عن ترك ما أدمن عليه، بل يتقنّع ويدّعي عكس ذلك تماماً، يدّعي أن كل شيء لايزال
تحت السيطرة، واذا كان هناك شيئاً الآن ليس علي ما يرام فإنه سيتحسن في المستقبل، وهناك
متسع كبير من الوقت في المستقبل لإصلاح ذلك الشيء.
وهكذا يخدعه عقله ويجعله يُمنّي نفسه بأنه
قادر علي التحكم في الأمور، ويستمر في إماناته دون أي شعور بالذنب أو بتأنيب
الضمير أو بالعجز، لأن كل من الشعور بالذنب وتأنيب الضمير والعجز تعبيراً عن
الألم، والعقل لا يحب الألم، ويحاول دائماً أن يضع له حداً من خلال أسهل الطرق،
وأسهل الطرق هي الهروب والتجنّب والإخفاء، لأن الطرق الأصعب تحتاج إلي مجهود
يعتبره العقل ألماً أيضاً وعبئ جديد عليه. وهذا كله يرجع إلى نقطة ضعف خطيرة في
العقل البشري وسبق أن أشرنا إليها في مقال سابق كان بعنوان "مشكلة العقل
الظنّي".
انسجام انواع الادمان مع بعضها البعض:
ومن سمات الإدمان أيضاً التناغم والانسجام
بين موضوعاته، حيث ان الكثير من الناس لا يدمنون أمراً أو شيئاً واحداً، وإنما
يمكن أن يدمن الشخص الواحد مجموعة من الإدمانات المتنوعة، وما يساعد علي ذلك هو أن
الكثير من أنواع الادمان تتناسب وتنسجم مع بعضها البعض، وعلي سبيل المثال فان
ادمان الجنس يرتبط في أغلب الأحيان بالإدمان علي تعاطي المخدرات والكحول، وكذلك
نجد أن ادمان التدريبات البدنية مرتبط بكل من ادمان التهام الطعام أو ادمان فقدان
الشهية للطعام، وكذلك نجد ان بعض مدمنين العمل مدمنين أيضا علي الانفاق، وان
مدمنين القمار يدمنون تناول الطعام بإسراف، وادمان الوجبات السريعة يكون مرتبط
بإدمان مشروبات مثل الكولا ومرتبط بإدمان الانفاق، وادمان التدخين مرتبط بإدمان المخدرات،
وهكذا فإن بعض أنواع الإدمان تستثير بعضها بعضاً ويكون بينهما تناغم وانسجام مما
يجعل الشخص المدمن متعدد الإدمانات ان جاز التعبير.
لذلك علينا ان نختبر أنفسنا لنرى ان كنّا
مدمنين أم لا، ولكي نختبر أنفسنا علينا أن نفكر ولو قليلاً، في فكرة التخلّي عن
كل ما اكتسبناه في حياتنا، منازلنا، سياراتنا، عملنا، إنجازاتنا، وحتى بلادنا
وأسرنا، ونسأل أنفسنا، هل يمكننا أن نتخلّى عن كل ذلك ونتبرّع به للمحتاجين ثم
نذهب إلي بلد جديدة لنبدأ فيها من جديد ؟
والإجابة بـ لا على هذا السؤال لها عدد من
الدلالات، منها أننا مدمنون، وغير واثقين بأنفسنا، وصورتنا الذاتية متدنية، ولا
نعرف أنفسنا، ونجهل الكثير من المعارف التنويرية. وإذا كانت الفقرة السابقة صادمة صديقي
القارئ، فإن مثل هذه الصدمات المعرفية هي ما يضعك على طريق الاستنارة.