كثيراً من نذهب بعيداً لنكتشف في النهاية ما
هو قريب، وكثيراً ما نغفل عن أهم الأشياء وأقربها إلينا، برغم احتياجنا الشديد
إليها. يرجع سبب ذلك إلى مجموعة من الأكاذيب التي آمنّا بها كحقائق، ومجموعة من
الحقائق التي كذبناها.
اكذوبة أن (ما ليس له ثمن ليس له قيمة) أفسدت
فلسفتنا للقيم وللحياة، وجعلتنا نلهث خلف الأشياء ذات الأثمان، ونترك خلفنا أشياء
لا يمكن أبداً أن تقدر بثمن. كما جعلتنا لا نشكر الله إلا على الأشياء التي دفعنا
لها مقابل، اما النعم الأخرى التي لا تقدر بثمن فلا نشكر الله عليها إلا قليلاً
جداً.
جعلتنا قوة الإغواء نلهث خلف الأشياء في خارج
أنفسنا ونترك أنفسنا خلفنا، وخدعتنا الأكاذيب التي صدقناها وضللتنا طوال الرحلة.
أكذوبة أن المال هو الثمن لأي شيء تجعلنا نبيع أرواحنا من أجل المال، وأكذوبة أن
هناك شيئاً ما ينقصنا تجعلنا ننشغل طوال الوقت بالبحث عن ذلك الشيء الذي لا نعرفه
حتى. ودفعنا الشعور بالنقص
إلى البحث عما نفتقده في خارج أنفسنا وخارج حدود ما نتنعم به من نعم وخيرات غرسها
الله فينا، ونتيجة لذلك أهملنا عالمنا الداخلي.
نقطة ضعف خطيرة عند البشر تجعلهم عرضة
للاستغلال بكل سهولة، يستغلها المعلنون بشكل بارع عندما يوحي لك المعلن بأن سلعته هي
الشيء الذي ينقصك وتفتقده في حياتك من أجل ان يبيع لك. وتجعلنا كثرة الأشياء
المغرية والأكاذيب المضللة ننشغل طوال الوقت بالسعي والتفكير والتخطيط لامتلاكها، وننسى
تماماً أهم ما نمتلكه نحن.
الأمر يشبه حالنا عندما ننهمك في شيء ما
وننشغل به لدرجة أننا ننسى أو نغفل عن أهم الأشياء مثل حاجتنا الحيوية إلى شرب
الماء على سبيل المثال، ننشغل بالشيء لدرجة أننا ننسى أن نشرب الماء. ما هذه
الغفلة التي تجعلنا نحرم أنفسنا دون أن ندري من أهم ما نحتاجه، بل وندمن على
الحرمان؟!
لك أن تتخيل شخص يفعل ذلك باستمرار، ينشغل طول
الوقت عن شرب الماء ولا يشربه إلا قليلاً جداً، ماذا سيحدث لهذا الشخص إذا استمر
على هذا المنوال لفترة طويلة؟ تؤكد لنا العلوم أنه سيتكيف مع هذا الوضع نظراً
لقدرة الانسان الفائقة على التكيف، وسيعتاد على الجفاف لدرجة أنه سيصبع جزء من
ثقافته ومن شخصيته. سيعتاد على شرب القليل جداً من الماء حتى ولو توفرت المياه
النقية حوله بكميات كبيرة، وحتى ولو كان يسكن فوق نهرٍ جارٍ.
وللأسف فإن حال الكثير من الناس مثل هذا
الشخص، ينشغلون بأشياء متعددة وكثيرة جداً في الحياة ويتعلقون بها تعلق يصل إلى حد
المرض، ويغفلون عن الخير الذي بداخلهم والذي قد يكون هو الحل الدائم لكل مشاكلهم،
ويستمرون على هذا المنوال "الجفاف"، وعلى هذا النمط الفكري الخاطئ الذي يتمحور
حول الأشياء التي في الخارج، وليس القوة الداخلية الكامنة فيهم.
وهكذا يدورون في حلقة مفرغة، فهذا الجفاف
يسبب مشاكل وحل هذه المشاكل هو في العودة إلي الداخل والارتواء من ينابيع الخير
التي غرسها الله في داخل النفس الانسانية، ولكنهم لا ينظرون إلي داخلهم ويستمرون
في إدمان هذه العادة "الجفاف" والذي بدوره يؤدي إلي ظهور المزيد والمزيد
من المشكلات .. وهكذا يدورون في حلقة تتسم بالسلبية وبتدهور الحال مرة بعد مرة بعد
مرة.
وتعد هذه الحالة احدى صور "الإدمان"
ذلك المصطلح الذي نتعاطاه بابتذال وبمنتهى السطحية، والذي يتخذ تنوعات لا نهائية.
فإذا كان المدمن للمخدرات يشعر بالنقص إلى شيء ما في الخارج مثل المخدر الذي يعتمد
عليه عقله كمصدر للسعادة، وينشغل بالتفكير في ذلك الشيء والطرق المتعددة للحصول
عليه، ويفعل كل هذا بإصرار شديد، غافلاً عن أهم الأشياء في حياته والتي تتدهور
نتيجة لذلك، فإن هذه الحالة أي " التمحور حول الأشياء الخارجية" ما هي
إلا قصة أخرى من قصص الإدمان.
المشكلة أن ما نبحث عنه في الخارج ليس هو
السعادة بل هو المعاناة، لأن الرغبة تنتج الشعور بالحاجة، فرغبتك في الشيء تعني
أنك تشعر بالاحتياج إليه، وإذا لم تحصل على رغبتك ستكون النتيجة هي المعاناة. صحيح
أن المعاناة قد تدفعنا للعمل والانجاز من أجل الحصول على ما نرغبه والتخلص منها،
ولكن الاسراف في الرغبات وخصوصا تلك التي ليس لها قيمة حقيقية يجعلنا نعيش في
تعاسة. وهذا يضعنا من جديد أمام فلسفة القيم لنتساءل ما هو معيار القيم في فلسفتنا
الخاصة؟ لنعرف كيف نرتب كل هذا الكم الهائل من الأشياء في حياتنا بناءً على ذلك
المعيار.
اننا بحاجة إلى التوقف وانتظار الروح التي تركناها
خلفنا في سباقنا على الأشياء الخارجية مثل المال والشهرة والعظمة ونيل الاستحسان
من الآخرين، بسبب الآخرين الذين قاموا بدس هذا الشعور بالنقص في داخل عقولنا
بالإيحاء والإغواء وبطرق أخري متعددة. اننا بحاجة للعودة إلى نفوسنا التي أهملناها
والتمحور حول قيم التفكير والتأمل والتخيل والإبداع الذي تجد فيه أرواحنا فرصتها
لكي تنموا وتتمدد. اننا بحاجة إلى الوثوق بأنفسنا وبأننا نمتلك كل ما نحتاجه
ونستطيع أن نمنح أنفسنا كل ما نرغبه.
ليس المدمن وحده هو الذي يشعر بأن شيئاً ما
ينقصه لتكتمل سعادته، بل انها أصبحت سمة عصرنا الذي يتعلق فيه الناس بكل شيء وأي
شيء في خارج أنفسهم، وأصبحت حالة الانشغال الدائم بالأشياء هي حالة كل فرد في
عصرنا الحديث، ولم يعد هناك وقت للتأمل والتخيل والتفكير الدقيق والحوار مع الروح.
في حين أن قوى الإنسان العظمى هي قوة التفكير
والتأمل والتخيل، تلك القوى التي تكمن بالداخل، والتي لا تمتلك إلا بالممارسة، فمن
لا يمارس التخيل لن يمتلك قوة التخيل ومن لم يمارس التأمل لن يمتلك قوة التأمل
وكذلك التفكير.
بإمكان المدمن أن يتوقف عن تناول المخدر وأن
يبني ويشيد عالمه المثالي بقوة خياله، وهذه القوة وحدها كفيلة بأن تجعل من عالمه
المثالي عالم واقعي يعيش فيه. بإمكاننا أن نتخيل أنفسنا بالشكل الذي نرغبه
وبالعظمة التي نرغبها وبالعواطف التي نريد أن نشعر بها، بدون الذهاب إلى الخارج واللجوء
إلى الآخرين أشخاصاً كانوا أو أشياءً ليمنحونا ما نرغب. إننا ببساطة نمتلك كل ما
نرغب وقوانا الداخلية كفيلة بأن تشكل الواقع وتطوعه لكي يكون كما نريد.
لماذا لا نشيّد عالمنا الجديد الذي نرغبه بقوانا
الداخلية؟ لماذا لا نكسر تلك الحلقة المفرّغة ونعود لننظر إلى الداخل، إلى داخل
انفسناً حيث يوجد الحل الدائم لكل المشكلات ؟!
هل لأننا أدمنّا على الجفاف؟