اخلاقيات الجماعة وروح الآسرة
الدكتور عادل عامر
ليس هذا فقط بل إن المجتمع الذي يسمح باهتزاز مفهوم الهوية لدى أفراده ويجعلهم يشعرون بالاغتراب داخل بلدهم وبالإحباط داخل أقطارهم هو مجتمع بينه وبين الانتماء والمواطنة مسافة كبيرة. هناك بالإضافة إلى القيم والمفاهيم المذكورة في أعلاه عادات وخصائص تميز المجتمعات، وتنتشر بين العوائل لها صلة مباشرة بموضوع التماسك، فالأب الذي اعتاد تأدية الفرائض الدينية بشكل صحيح، واعتاد معه الأبناء السير بنفس النهج تكون عائلتهم متماسكة، أو أكثر تماسكا، بالمقارنة مع عائلة أخرى تمتاز باعتياد الأب وحده تأدية الفرائض دون الأبناء الذين يلتزمون بعادات أخرى على النقيض من عاداته، والعائلة التي فيها الابن الأكبر اعتاد التجاوز على المال العام على العكس من باقي إخوانه ستؤدي عادته هذه إلى ابتعادهم عنه أي ضعف التماسك.
ووحدة الخصائص التي نقصدها هنا لا يقتصر تأثيرها على التماسك في جوانب العادات الإيجابية فقط، إذ إن العائلة التي اعتاد معظم أفرادها أكل المال الحرام مثلا، يمكن أن تكون متماسكة سلبيا، أي من زاوية التوحد على الفعل الحرام إذا ما توفرت مع هذه العادة شروط أخرى.
إن تفعيل التطوع القائم على استثمار الخبرات والكفاءات عنصر مهم في المواطنة شأنه شأن تعزيز وتنمية المسئولية الاجتماعية، لأن هذا يؤدي بطبيعة الحال إلى نشر القيم الخلاقة البناءة الإيجابية السوية في المجتمع، كما يساعد على محاربة الأفكار الهدامة المدمرة للمجتمع.
ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تمكين أفراد المجتمع من التأثير الإيجابي على إصدار قرارات لصالحهم تجعلهم يشعرون بأن لهم قيمة وكيان وأن رأيهم موضع للثقة والاعتبار والتنفيذ، مما يزيد من ارتباطهم بالأرض والأفراد والأهداف والسياسات والبرامج، ومن ثم تُدعم عملية المشاركة في اتخاذ القرارات كما يتم تعزيز المواطنة والانتماء.
وإذا كانت المواطنة في اللغة العربية تنسب إلى الوطن؛ وهو المنزل الذي يقيم فيه الإنسان فإن المواطنة في اللغة الإنجليزية تشير إلى مفهوم Citizenship ويعني غرس السلوك الاجتماعي المرغوب فيه حسب قيم وتقاليد المجتمع، المواطنة اصطلاح يعني الانتماء إلى أمة أو وطن الواقع إن الوعي الأسري بقضايا المجتمع ومشاكله وموارده، والمشاركة في صنع قراراته واختيار قياداته يعد عنصراً فاعلاً في ترسيخ وتعزيز المواطنة،
فالوعي السري يشير إلى تماسك أفراد الأسرة مع بعضهم البعض، وإلى قدرة الأسرة كوحدة متكاملة على تحقيق أهدافها وإشباع احتياجات أفرادها، فالوعي الأسري يحدد شكل التفاعلات والممارسات الأسرية اليومية وكيفية إشباع الأسرة لاحتياجات أفرادها النفسية والتربوية والعاطفية والاقتصادية والصحية والاجتماعية والدينية. والأسر التي لديها وعي أسري واجتماعي هي التي تستطيع أن تحمي أفرادها وتحقق لهم الشعور بالولاء والانتماء والتواد والمحبة مما يجعلهم أكثر رضا عن الأرض والمجتمع والأفراد.
الأسرة إذاً هي مصنع الرجال والنساء، فيه البيئة الاجتماعية التي تعلم أفرادها آداب وأخلاقيات السلوك الاجتماعي، وهي التي ترشد للإنسان نزعاته وطموحاته، وتحدد له آماله وتساعده على تحمل آلامه، وهي التي تكسب الفرد القيم والعادات والتقاليد ومعايير السلوك، فهي الإطار العام الذي يضبط وينظم سلوك الإنسان، ويحافظ على الثقافة المجتمعية وينقيها من أي اختراق أو غزو ثقافي واجتماعي. إن النظام الأسري يعد أكثر قدرة من النظم الاجتماعية الأخرى على ترسيخ مفهوم الانتماء والولاء والتماسك الوطني، والأسرة كجماعة تمتلك قدرة أكبر من قدرة الجماعات الأخرى على تعزيز مفهومي الحقوق والواجبات لدى الأفراد، والأسرة بطبيعة الحال هي الجماعة الأكثر قدرة على تشجيع أفرادها على تحمل المسئولية الاجتماعية إن المسؤولية بمعناها العام تعني إقرار الفرد بما يصدر عنه من أفعالٍ، واستعداده لتحمل نتائج هذه الأفعال، فهي القدرة على أن يُلزم الفرد نفسه أولًا، والقدرة على أن يفي بعد ذلك بالتزاماته الاجتماعية بواسطة جهوده الخاصة وبإرادته الحرة.
وعلى غرس واحترام القيم العامة كالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء، والأسرة كذلك قادرة على أن تعلم أفرادها الحب والمحافظة على حقوق الآخرين وعلى الملكية العامة في إطار من الوعي والتساند، كما أنها تستطيع أن تعلم أفرادها كيفية احترام الآخر وتقدير مشاعره وتفهم أفكاره حتى لو اختلفنا معها، ولذلك فإن الأسرة التي يغلب عليها التوافق والانسجام هي الأكثر قدرة على تحقيق الانتماء والتماسك والوطنية. فالتوافق الزواجي يقصد بالتوافق في معناه السيكولوجي إيجاد علاقة تناسق بين فرد أو جماعة وموقف اجتماعي معين.
والأهم هو أن نبلغ نحن العرب والمسلمين النمط العلائقي التعاضدي حيث نسق التواصل أفقي تعاوني غير تسلطي، وتعددي غير أحادي، لأنه يرمي حقا إلى الحرية الحقيقية وليس التكبيل والقسرية، إلى الشمولية التعاونية وليس التفرد والفعل السياسي غير السوي.
وباختصار فإن الانتماء المغلق في القرن الحادي والعشرين سيؤدي إلى انكفاء المنتمين من هذا النوع في المجتمع المغلق، وفي الفكر الايديولوجي، وفي الفعل السياسي العصابي، وهنا يموت الإنسان، وتنعدم الحرية، وتذبل الشخصية، ويختل التكيف المتوازن مع الحقل، ومع الذات، وتستعر الرغبة بالتحقق والتوكيد، عندها سيكون الارتباط بين الأنا والأنت (التماسك) في العائلة التي تشكل أساس المجتمع الكبير مسألة غير مضمونة وسيخسر (المجتمع) الكثير من مقومات صموده تجاه الهجمات الخارجية
إن لم يتحرك بسرعة على وفق التفاهم والتعاطف وكذلك التعاون والانفتاح، مكونا معايير للتماسك تتأسس على قيم الماضي وتنسجم مع روح العصر. وهذه مهام لا يمكن أن تقوم بها الدولة بمؤسساتها فقط، بل على المجتمع بكافة وسائله والإنسان بكل قواه أن يتظافرا جميعا من أجل تحقيقها سعيا لأن يعيش الجميع في مجتمع أفضل وظروف أحسن بعيدا جهد الإمكان عن ضغوط الحضارة وقسوة اللاتماسك العائلي. لا شكّ بأنّ الأخلاق هي سمة المُجتمعات الرّاقية المُتحضّرة، فأينما وُجِدَت الأخلاق فثمّة الحضارة والرّقي والتّقدم،
ولما أرسل الله تعالى نبيّه محمّد -عليه الصّلاة والسّلام-جعل من مَهمّات دعوته وصميم رسالته أن يُتمّ الأخلاق ويُكمّلها، فالأخلاق موجودة راسخةٌ برسوخ الأمم ونشوئها قبل النبوّة والبعثة، غير أنّها كانت ناقصةً مسلوبة الروح والمضمون، فجاءت الشّريعة الإسلاميّة لتُكمّلها وتُلبسها لباساً يُجمّلها ويَجعلها في أحسن صورة، والأخلاق الحسنة هي حالة إنسانيّة سلوكيّة يسعى كثيرٌ من النّاس الباحثين عن الكمال للوصول إليها وإدراكها،
والأخلاق ترفع درجة الإنسان في الحياة الدّنيا وفي الآخرة، فالنّاس يُحبّون صاحب الأخلاق الحسنة الحميدة ويتقرّبون إليه ويتمنّون صحبته وصداقته، وهي كذلك ترفع درجة المُؤمن عند ربّه جلّ وعلا، بل وتجعله من أقرب النّاس مَجلساً إلى رسول الله يوم القيامة، وقد ورد عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام-أنه قال: (إنَّ أحَبَّكم إليَّ وأقرَبَكم منِّي في الآخرةِ أحاسِنُكم أخلاقًا وإنَّ أبغَضَكم إليَّ وأبعَدَكم منِّي في الآخرةِ أسوَؤُكم أخلاقًا المُتشدِّقونَ المُتفيهقونَ الثَّرثارونَ).
لا يمكن الحديث عن المسؤولية الاجتماعية بدون الحديث عن أخلاقيات أفراد وجماعات ومؤسسات المجتمع في التعامل مع المسؤولية الاجتماعية في الإطار الإنساني الذاتي والذي ينبع من مدى احترامهم لهذا المبدأ الإنساني، والذي من أجله نهضت مجتمعات
وتقدمت بفعل أواصر الترابط والتماسك السائد بين أفراد المجتمع الواحد. لا يمكن أن يُكتب للمسؤولية المجتمعية عناصر السلامة والنجاح بدون توافر الشعور والإحساس الذاتي اتجاه أي حدث طارئ أو مشكلة ما، ولهذا يستوجب دائمًا المبادرة والتعاون في إطار البناء المجتمعي المتماسك بعيدًا عن عوامل التفكك والانهيار المجتمعي.
تُشكل هذه الأبجديات الثلاث مجتمعة في حال تم العمل بها وتطبيقها على أرض الواقع وممارستها عمليًا من قِبل أفراد المجتمع الواحد، نموذجًا مهمًا نحو إعادة تشكيل الوعي الذاتي باتجاه بناء مجتمعٍ متماسكٍ ينحو نحو زمام المبادرة في إطار التعاون والتماسك الاجتماعي.