قراءة واعية لعلاقة الغرب بالإسلام (6)
مصطفى إنشاصي
وهكذا استطاع البابا أن يوحد القوى المتناحرة في أوربا وأن يوجهها نحو العدو المركزي الذي ظلت جيوشه وحضارته تهدد أوروبا قرون وتشكل خطراً أكبر على النصرانية ووجودها داخل أسوار أوروبا نفسها، ضارباً عصفورين بحجر واحد: تخليص أوروبا من الفتن والصراعات الداخلية بين أمراءها وملوكها التي كادت تقضي عليهم، وإخراجها من حالة التدهور التي وصلت إليها، وتأكيد سلطانه على أوروبا وتقوية نفوذه على رعيته، ذلك من خلال استجابتهم لنداءه ومن خلال استعادة بيت المقدس وإعادته إلى حظيرة النصرانية، وتأمين سلامة الحجاج النصارى إليه، كما كان يدعي من خطر المسلمين عليهم وإيذائهم لأولئك الحجاج. "وكان الفرنسيون أول من لبى نداء البابا أوربان الثاني ولا سيما في بدايتها. فقد كانوا أكثر المشتركين في هذه الحرب".
وهكذا اتفق اللصوص وقطاع الطرق فيما بينهم وجاءوا إلى وطننا الإسلامي من أجل النهب والسرقة والقتل رافعين شعارات دينية ومدعين أنهم في مهمة مقدسة، فهم حملة الإنجيل وأتباع ديانة المحبة والتسامح والسلام، وأقر ما كتبوه إلى البابا الذهبي عن التسامح والسلام؛ فقد كتبوا يتباهون بالمجازر التي ارتكبوها ضد المسلمين بعد دخولهم القدس فقالوا: "إذا أردت أن تعرف ما يجري لأعدائنا فثق أنه في معبد سليمان (جامع عمر بن الخطاب) كانت خيولنا تغوص إلى ركبها في بحر دماء الشرقيين".
الغرب هو الغرب قديماً وحديثاً دموياً لا إنسانياً
وتحدثنا كتب التاريخ عن الجرائم البشعة التي نفذها الصليبيون ضد المسلمين بشكل لم يعرف التاريخ له مثيلاً، مما يدل على حقدهم الدفين. فها هو المؤرخ ابن الأثير يصف لنا المذبحة في بيت المقدس فيقول: "وقتل الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد عن سبعين ألفاً، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلماءهم وعبادهم، ممن فارق الأوطان، وجاور الموضع الشريف في بيت المقدس".
ويروي ريموند أحد مؤرخيهم عن القدس الذي حضر المذبحة قوله: "وشاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين وقتل غيرهم رمياً بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم الآخر يعذبون عدة أيام ثم أحرقوا بالنار، وكنت ترى في الشوارع أكوام من الرؤوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل". وقال شاهد آخر: "أن النساء كن يقتلن بالسيوف والحراب، والأطفال يخطفون من أثداء أمهاتهم ويقذف بهم من فوق الأسرار، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد، وذبح سبعون ألفاً من المسلمين الذين بقوا في المدينة". "وبلغ من حقد الصليبيين أنهم انطلقوا إلى المساجد والمنازل والشوارع يقتلون كل من يصادفهم دون تمييز".
كان سقوط القدس أكثر مراحل التاريخ انهياراً وأكبر فاجعة أصابت الأمة الإسلامية، فقد كان تاريخاً حزيناً في وجدان الأمة، وإيذاناً بسلسلة من الانهيارات الأخرى على الصعيد العسكري "فقد بلغ حد الاستهتار بالمسلمين أن الصليبيين حين حاصروا حلب سنة 518هـ قطعوا الأشجار ونبشوا قبور الموتى، وكانوا يعمدون إلى ربط المسلمين بالحبال ثم يسحبونهم أمام المسلمين قائلين لهم: هذا نبيكم، وأحياناً هذا عليكم، وكلما أمسكوا بمسلم قطعوا يديه ومذاكيره".
ولم يكتف أولئك اللصوص وقطاع الطرق بما قاموا به من قتل وتخريب وتدمير رافعين القناع عن وجوههم، وكاشفين حقدهم الدفين على الإسلام، بل مزقوا القرآن باسم الدين، ثم ربطوه "في مؤخرة الحصان بينما انطلقت ضحكات الفرسان الصليبيين، وارتفع صوت أحدهم منادياً: ليأتِ محمدكم لتخليص هذا الكتاب". كما أنهم أحرقوا المساجد وحولوها إلى كنائس، فقد "حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة لاتينية سموها معبد السيد كما استخدموا المسجد الأقصى لمصالحهم وأطلقوا عليه باللاتينية اسم معبد سليمان".
رحم الله عمر بن الخطاب الذي رفض أن يصلي في كنيسة القيامة يوم أن قدم لتسلم القدس خوفاً أن يأتِ أحد المسلمين بعده يقول: إن أمير المؤمنين صلى هنا وهذا حق لنا فيها. ودون الخوض كثيراً في مناقشة بواعث الحروب الصليبية وتعريفاتها نود أن نؤكد من البداية أنها لم تكن من أجل إنقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين بقدر ما كانت للخلاص من الأزمات الداخلية في أوروبا، كما أنها كانت "خير فرصة أتيحت للغربيين للجمع بين الخلاص في الدنيا والتواب في الآخرة". وقد كان العامل الديني فيها يشكل دافعاً قوياً ومهماً، ويكفي أن الذي دعا إليها هو البابا نفسه، لذلك عرفها المؤرخ الفرنسي ريان أنها: "حروب دينية استهدفت عن طريق مباشر أو غير مباشر الاستيلاء على الأراضي المقدسة بالشام، وخاصة الاستيلاء على بيت المقدس لتأمين حجاج النصارى إلى قبر السيد المسيح عليه السلام".
كما أنها كانت تستهدف تدمير الإسلام. يقول المستشرق غاردنر: "لقد خاب الصليبيون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحية في قلب العالم الإسلامي، والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام". ويرى "الدكتور محمد مصطفى زيادة" في مقدمة كتابه "حملة لويس التاسع على مصر" أن: "الحروب الصليبية حركة أوروبية اعتدائية توسعية استمدت جذورها من قديم التنافس العميق بين الشرق والغرب. ومن توغل الفتوحات الإسلامية الأولى في أطراف الإمبراطورية البيزنطية. وفي أجواف الممالك المسيحية الغربية في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا وجزر المتوسط، وتضاف إلى هذه العوامل العالمية الكبرى، عوامل أوروبية محلية، وهذه ترجع إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وإلى صميم التاريخ الأوربي في ذلك القرن".
تنويه: بدءً من الحلقة القادمة سأضع تحت عنوان: الغرب والإسلام، عنوان خاص لكل حلقة
تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعة "Nasher Sahafi" في مجموعات Google.
لإلغاء الاشتراك في هذه المجموعة وإيقاف تلقي رسائل الإلكترونية منها، أرسل رسالة إلكترونية إلى NasherSahafi+unsubscribe@googlegroups.com.
لعرض هذه المناقشة على الويب، انتقل إلى https://groups.google.com/d/msgid/NasherSahafi/CAJ1YmRE7LpR8X49WgEV1A13__fmUkUT72HMaxk9wX_XjzeZmYw%40mail.gmail.com.