وتحليل النظريات والأنظمة والأمور المركبة من أهم مهام المنطق العقلي، وهو ملكه موجوده بالفطرة عند كل إنسان، ولكنها من أكثر الملكات العقلية هشاشةً وضعفاً.
مثلها مثل الذكاء العددي، فهو أكثر أنواع الذكاء ضعفاً وضموراً عند كل إنسان، فإذا سئلت أذكى شخص تعرفه عن جمع أو طرح او ضرب أو قسمة عددين كبيرين فلن يُسعفه ذكاؤه علي الإجابة وإذا قلت له إجابة خاطئة فإنه لن يجد أمامه إلا ان يصدقك!.
هذا الأمر في مجال الأعداد يكون مقبولاً جداً، ولكن في مجال السياسة يصبح الأمر خطيراً جداً.
وعندما نقول علي أمر ما أنه خطير في مجال السياسة، فإن هذا يعني أنه أمر مصيري، لأن السياسة أمر يتعلق بمصير الإنسان ومصير الشعوب.
ومن هذا المنطلق وجدت أنه من المسؤلية الأخلاقية والعلمية والوطنية أن أكتب في مجال التحليل السياسي حتي أشجع غيري من الكتاب والمثقفين والسياسيين والمتفلسفين العرب على الإهتمام بهذا الجانب الخطير والمرتبط إرتباطاً مباشراً بمصيرنا ومصير بلادنا ومصير الأجيال القادمة. لأنني أرى أن معظم المقالات والآراء المنتشرة علي شبكة الإنترنت العربية تتناول التحليل السياسي بأسلوب سطحي غير مسؤل، كما أن هؤلاء الكتاب يتحدثون عن منهج لعملية التحليل السياسي ولم يقوموا بتطبيق هذا المنهج علي أنظمتنا السياسية العربية، وهذا لأن كتاباتهم منقوله ولأن المنهج وحده لا يكفي لإجراء عملية تحليل صحيحة لنظام سياسي كما سأوضح.
وجدت أيضاً أن الكتابة في هذا المجال تُعد شكلاً من أشكال الإستثمار لسنوات الدراسة التي قضيتها في دراسة الفلسفة بشكل عام وعلم الإجتماع وعلم النفس والفلسفة السياسية والتحليلية والتفكير الناقد بشكل خاص، وأن إسهامي في هذا الجانب سيكون أفضل من إهدار هذه السنوات وإهدار الجهود التي بُذلت فيها.
وهدفي من وراء هذا الإسهام هو إثراء الحياة السياسية العربية بالتحليلات للأنظمة السياسية والإدارية فيها والتي نشكوا منها طوال الوقت، أو نشكو بسببها دون أن ننظر لها نظرة ميكروسكوبية فاحصة لنتعرف علي جوانب القصور فيها، حتى نتمكن من تطويرها.
كما أنني أهدف إلي توجيه الدعوة للمثقفين من الشباب العربي الذي أهدرته الأنظمة العربية كثروة بشرية يُقاس بها تقدم الأمم، إلي أن يعيدوا إكتشاف ذواتهم وأن يهتموا بتحليل الأنظمة والإشارة إلى عيوبها بدلاً من الشكوى منها، وأن يعملوا علي إنتاج ونشر هذا النوع من المعرفة حتى يكون لدينا أكبر عدد من المراقبين الإجتماعيين التوعويين، لكي نتمكن من التغيير والإصلاح الإجتماعي الجدي من أجل تحقيق النهضة المنشودة.
ويجب أن أُنوّه علي أن مجال السياسة يختلف تماماً عن مجال التحليل السياسي، فإذا كانت السياسة تتطلّب مستوى مُعيّن من الوعي السياسي وهو كم المعرفة السياسية الحاصلة عند السياسي، فإن التحليل السياسي يتطلّب مستوى أعلى من الوعي بشكل عام، وليس فقط الوعى السياسي. ذلك لأن النشاط السياسي أعقد النشاطات التي أخترعها الإنسان علي هذا الكوكب، وكل العلوم مرتبطة بشكل ما بالسياسة، سواء كان هذا الإرتباط مباشراً أو غير مباشراً، وأقول كل العلوم بالمعنى الشامل لكلمة كل.
وجدير بالذكر أن مستويات الوعي هذه مُتدرجة إلى مالانهاية، إذ أننا لم نعرف للوعي الإنساني حدود، والوعى مُختلف عند كل إنسان عن الآخر، وكل إنسان يفهم الأمور علي حسب حظه من الوعي، وأجد تعبير "جبران خليل جبران" بليغاً في هذا الإطار حيث يقول ( تحدّثت مرّة عن البحر إلى جدول فخالني الجدول مبالغاً مُغرقاً في الخيال، وتحدّثت مرّة عن الجدول إلى البحر فظنّني البحر عيّاباً أبغي التشهير).
لذا فإنه من الضروري أن يكون أسلوب المحلل السياسي منطقي في المقام الأول، ومُدهش في المقام الثاني، لأنه غالباً ما يخرج عن إطار الإدراك المألوف، وهذا يعني أيضاً أنه من الطبيعي أن تكون آراءه صادمه في بعض الأحيان عندما تتعارض مع الرائج أو المسلمات التي بُنيت عليها الآراء والمعتقدات السياسية.
وفي مجال التحليل السياسي تكون الكلمة العليا لعلم المنطق، ذلك لأنه في الأساس جزأ منه كما ذكرت في البداية، وكذلك لأن المنطق هو ميزان العلوم والعيار الذي يفصل في صدق أو كذب أي قضية من أي نوع، وبالنظر إلي خطورة السياسة، وإلى أنها نشاط تُسهم فيه كل العلوم، فإن السيادة هنا لابد أن تكون للمنطق أو (الأوروجانون) كما يسمية المعلم الأول "أرسطو" الذي وضع علم المنطق.
ذلك لأنه العاصم الوحيد للذهن من الوقوع في الخطأ، وإذا تخلّى الإنسان عن المنطق سيكون من السهل تطويعه وتشكيله ونمذجته، وسنتحدث عن طرق النمذجة لاحقاً ولكن أريد أن أشير فقط هنا إلي مجال مثير للإهتمام من مجالات علم النفس وهو ما يسمى (علم التحكم الآلي)، أقول في علم النفس وليس في علم الماكينات، ولا شك أن أسمه مثير للإشمأزاز، ولكنه أيضاً مثير للأهتمام، فكيف يمكن تحويل الإنسان إلي آله؟، وكيف يمكن نمذجة الإنسان وتشكيله مثل الفخار؟، وما هي طرق الحماية من مثل هذا النوع من القرصنة؟.
وعلى المحلل السياسي أن يجيب علي كل هذه الأسئلة وأكثر، بالإضافة إلي تحليل النظم المختلفة التي يتعامل معها الإنسان سواء كانت إدارية أو سياسية أو سلطوية أو سلوكية أو اقتصادية، وكل الأنظمة التي يتأثر بها الإنسان في حياته، ومنها مثلاً نظام التعليم في المدرسة وما به من طابور الصباح وتمارين الصباح والإذاعة المدرسية وطريقة الإنصراف الي الفصول. كل هذه التفاصيل لابد أن يتناولها المحلل السياسي في بناء تحليلياته، بل وعليه ان يتفحص تفاصيل التفاصيل وهذا ما أسميه النظرة الميكروسكوبية.
ولا شك أننا نحتاج إلي ميكروسكوبات بشرية علي درجة عالية من الجودة تتفحص تفاصيل ودقائق حياتنا الإجتماعية والسياسية إذا كنّا فعلاً صادقين في رغبتنا في الإصلاح.
وفي الختام أريد أن أقول أن الإنسان الذي أخترع كل العلوم وطوّرها إلي أن أصبحت علي هذه الدرجة العالية والمذهلة من التطور، ليس هو الإنسان العصري الذي يعيش الآن غارقاً في بحار رغباته ولذاته ومعاناته، يعرف شيئاً ويجهل أشياءً لا تحصى .
بمعنى أن الإنسان العصري ليس هو الانسان التاريخي، وأن الإنجازات التي حققها الإنسان التاريخي في حقل المعرفة أصبحت عبئاً ثقيلاً علي الإنسان العصري الذي يعجز الآن عن إستيعابها، في حين أن كل هذه الإنجازات تعمل معاً في إنسجام تام، وكل شيء فيها مرتبط بكل شيء، وأصبح الإنسان العصري قظماً في غاية الضآلة مقارنتاً بالإنسان التاريخي.
إن الإنسان التاريخي يحتاج إلى وريث، ولا شك أن هذا الوريث سيملُك قوة جبارة هي قوة ضربات الإنسان التاريخي في مر العصور.
وعلينا أن نحصل علي إرثنا الشرعي من هذة التركة لكي نحمى أنفسنا من بطش الورثة الآخرين، ولكي نملك قرارنا ومصيرنا، ولكي نترك للأجيال القادمة طريق إلي مستقبلهم خالي من الأشواك.
أكتب هذه الكلمات وتتردد في ذهني مقوله لأحد أعداء العرب كان يقول "إن العرب أمة مرشحة للإبادة"
ولن نستطيع الرد عليه إلا بالعمل والإنكباب علي إصلاح مجتمعاتنا، ولا شك ان عامل الوقت مهم وحاسم، لاأننا متأخرون جداً.
فما هو الطريق الأمثل للحصول علي إرثنا من تركة الإنسان التاريخي، هذا الكنز الذي يحتوي علي القوة الجبارة التي من شأنها أن تنقلنا نقلة نوعية في كل المجالات ؟، هذا السؤال سيظل قائماً طوال هذة السلسلة من المقالات.
أسئل الله العون والتوفيق والسداد.
أصدقائي شكراً لكم علي القراءة
وسيسعدني النقاش معكم حول المقال
وأتمنى أن تتعاونوا معي في نشر المقال علي الشبكات الإجتماعية المختلفة لكي يحقق الغاية من كتابتة
كما أدعوكم إلي الإهتمام والإسهام في هذا الحقل بالشكل الذي يتناسب معكم، لأن بلادنا تحتاج منّا ذلك.
وعلينا أن نفعل ما علينا فعله.
بقلم
السيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية
كاتب ومحاضر في العلوم الإنسانية والنقد الفني والتحليل السياسي
sayedosaber@gmail.com