علّمنا رسول الله فلسفة النور، وعلّمنا أن نكون فرسان النور الذين ينشرون نور العلم والأخلاق والفضيلة في هذا العالم، عن طريق تعاليم ديننا الحكيمة، ولكني لا أريد أن أتحدّث هنا عن الدين، بل أريد أن أتحدث عن ( فلسفة النور ) كما أحببت أن أُسمّيها، والموجودة في هذا الدين، والتي علّمها لنا رسولنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
.فماذا أراد أن يعلمنا محمد ؟، وكيف يدرّبنا ذلك المُدرّب الحكيم؟!
هل سمعت من قبل أن محمد صلى الله عليه وسلم كان مُدرّب؟، وماذا تعرف صديقي القارئ عن التدريب؟.
حسناً سأوضح لك، إن المُعلّم هو ما يُعلّمك شيأً جديداً، وأنت تعرف ذلك حقاً، ولا يُشترط أن يكون هذا الشيء الجديد جُزأ من سلوكك، بل يكتفى المُعلّم بتعليمه لك فقط، ولا شك أن التعليم مهم جداً لأنه يبني لديك الوعي والإدراك الذي يشكّل رؤيتك للأمور والذي سيؤثر علي سلوكك فيما بعد بالتأكيد.
أما التدريب فهو يهدف إلي جعل هذا الشيء الجديد جزأً من سلوكك، وهذا النظام يأتي مكملاً للتعليم، ومثال علي ذلك أننا جميعاً نعرف فوائد الصبر ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نتوقف عن التعجّل والتسرّع، أما الذين يقومون بممارسات تتضمن الصبر بإستمرار مثل الصيد أو ممارسات وتمارين أُخرى، يكون الصبر جزأً من سلوكهم ذلك لأنه تدرّب عليه بتكرار الممارسة، هذا هو التدريب.
وإليك قصة أسطورية قرأتها ذات مرة تؤكد هذا المعنى وتعمّقه.
كان الأشوريين في قديم الزمان مشهورون بقوة فرسانهم وبطش جيشهم، فقد قٍيل أن الفارس الأشوري عند بدأ تجنيدة في الجيش يعطونه بذرة فيذرعها ويظل يقفز كل يوم فوقها، كل يوم دون كلل أو ملل، وتنمو البذرة تدريجياً إلي أن تَصِير شجيرة، ويظل الفارس يقفز فوقها كل يوم، دون كلل أو ملل، وتستمر الشجيرة في النمو والإرتفاع إلى أن تَصِير شجرة، ويستمر الفارس يقفز فوقها، ولا شك أن الفارس يكون قد أكتسب الكثير من هذه العملية التدريبية بحيث يتجاوز أي عائق أمامه، ولا شك أن الصبر والمثابرة يكونان قد أصبحا جزأً لا يتجزأ من الفارس نفسه، هذا هو التدريب صديقي القارئ، ولا شك أنه أمر حاسم في أي مجال، وأي معركة.
إن التدريب هو الفلسفة العملية التي تهدف إلى تحويل الفكرة المجرّدة الي سلوك عملي، وهو ما يُعرف في الفلسفة بالحكمة العملية، وأنا هنا أنظر إلى فلسفة ومبادئ رسولنا الكريم من هذا الجانب العملي، وأرى أن علينا أن نهتم بهذا الجانب إهتمام خاص كجزأ من تجديد الخطاب الديني وبشكل عصري، لأن الكثير من الناس لا ينتهج طريقة التفكير في الأمور وفق مبادئ معيّنة أو لا يدركونه، فضلاً عن أن تكون هذة المبادئ هي مبادئ دينهم.
وكذلك لأن عصرنا أصبح مليء بالتعقيد والتحديات التي تسببت للأغلبية العظمى من الناس إن لم يكن كُلّهم في مشاكل مثل الشعور بالخوف وإنعدام الأمن، واليأس، والافتقار إلى التوازن في الحياة، والصراع والخلافات، والركود علي المستوى الشخصي، والاحساس بالظلم ولوم الآخرين، والعجلة في كل شيئ، وعدم الإنصات إلى الآخرين والرغبة المُلحّة في الحديث بهدف التأثير فيهم دون محاولة فهمهم. أليست هذه هي مشاكل عصرنا؟!، إن الشباب يُريد مَن يفهمه ولا شك إنه سيستمع إليه، ولا شك أيضاً أن محمد رسول الله كان أكثر البشر فهماً لطبيعة النفس البشرية.
ولقد علّمنا رسول الله بطريقة الفلسفة العملية أن نعيش بسلام ووأن ننتصر بشرف.
فدرّبنا على الإعتراف بالجميل من خلال الحمد والشكر علي النعم في كل صباح ومساء، ودرّبنا على أن نُقدّم أفضل ما لدينا لكل شروق شمس من خلال أدعية الصباح التي تحتوى علي (نمط تفكير) يجعل الإنسان مُطمأناً ومتفائلاً، ويشحذ طاقة العقل ويوقظ الهمة والإرادة في الإنسان، فيستقبل شاكراً يوماً في الحياة جديداً.
ولا شك أن الهدف من تكرار هذه الأدعية هو تدريب التفكير علي هذه المشاعر الطيبة.
والآن تؤكد الأبحاث في جميع العلوم الإنسانية علي أن سر النجاح والتفوق في كل شيئ هو هذا (النمط الفكري) الغني بمشاعر الشكر والإمتنان والإحساس بالنعمة والمحبة والرضى والطمانينة، وليس ذلك فحسب بل تؤكد علي أهمية أن يكون هذا النمط سائداً في الصباح، وكل العلماء بما فيهم علماء الفيزياء ينصحون بأن نكرر كلمات تحمل هذة المشاعر، وهي ما تُسمّى بالتوكيدات أو الإيحاء الذاتي، مثل أن تردد مثلاً عبارة مثل (أنا شاكراً ومطمئناً وأجتذب كل ما أحب)، أليست هذه التوكيدات، تشبه أذكار الصباح التي أوصانا بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؟.
وكذلك درّبنا رسولنا على أن نركع عند كل غروب نقدم الشكر والإمتنان للعناية الالهية، ودرّبنا علي أن لا يقتصر هذا الإقرار بالجميل علي العالم الروحي فقط، بل لابد أن يمتد إلى رفقائنا وإخواننا فنتقاسم معهم ما نتلقاه من مكافئات في يومنا بالزكاة والصدقة، ليس فقط ليكون الإقرار بالجميل جزأً من سلوكنا، بل ليدربنا أيضاً علي العطاء ويغرس العطاء في نفوسنا. وللعطاء فضل جم صديقي القارئ.
وهناك قانون طبيعي من قوانين الكون،يمكنك أن تسميه قانون العطاء، هذا القانون مفاده أنك تأخذ أضعاف ما تمنح، فإذا ذرعت بذرة لن تعطيك الأرض بذرة واحدة بل ستعطيك أضعاف مضاعفه مما زرعت، ليس ذلك فحسب بل ستستمر في إعطائك طالما تستمر في رعايتها. هذا القانون يسري على التربة وعلي كل شيء، وهذا القانون واضح جداً في القرآن الكريم.
كما أن مشاعر العطاء على مستوى علم الطاقة تُرسل ترددات قوية جداً في جميع أنحاء الكون، معناها أنك تمتلك ما يكفي ويزيد. ولأن الشبية يجذب الشبية، وهذا قانون آخر يسمى بقانون الجذب، فسينجذب إليك كل ما يؤكد علي هذا المعنى لديك، وبالتكرار ستمتلك بالفعل ما يكفيك ويزيد، أليس ذلك رائعاً؟.
إننا نحتاج إلى هذا النوع من الوعي الذي يعمل على توسيع معاني الأشياء في ديننا لأن هذا سيحفزنا أكثر علي الإلتزام بديننا والإستفادة من هذا الإرث العظيم من الحكمة.
وكذلك علمنا رسول الله أن العمل عبادة، وأن العبادة لابد أن تكون بالعمل لا بمجرد الفكر او الكلام، وأن الصلاة تدريب للفارسان الذين يحوّلون الأفكار إلي أفعال، فيعبّرون عن إيمانهم بالعمل، ولا شك أن هذا سيُصبح جزأً من تكوينهم وسلوكهم في كل ميدان، ليكونوا رجال أفعال لا أقوال، يحققون ما يحلمون به.
صديقي القارئ أنا لست واعظاً، بل أنا مثل أي شاب قصّر كثيراً كثيراً في الصلاة، ولا شك أن تقصيرنا هذا ما هو إلا لحظات ضعفنا التي عجزنا فيها عن الحُلم بأي شيء، أو الرغبة بأي شيء، فلا نرغب في التدريب والإستعانه بالله من أجل شيء، فتقبلنا الحياة الراكدة وأكتفينا بإلقاء اللوم علي الآخرين، وتأكيد إماننا لأفسنا من وقت لآخر. وما هي في الحقيقة إلا أنفاق مظلمة يجب أن تمر سريعاً، ولكننا مكثنا فيها فترةً أطول لأننا لم نستمد من التدريب في السابق القوة الكافية التي تجعلنا نتجاوزها.
إننا بحاجة إلي التدريب، أليس كذلك ؟.
وعلّمنا رسول الله أن الجهاد الحقيقي هو جهاد النفس، وأن العدو الأكبر لنا هو نفوسنا، وأن حربنا لابد أن تكون حرباً فاضلة، نخوضها باسم الفضيلة والقيم النبيلة، وأن سيوفنا لابد أن تكون مُقدّسة وطاهرة من كل إثم، فلا خداع ولا كذب ولا تدليس ولا إلتفاف، وذلك لأن رسالتنا رسالة نور وحب وعلم وسلام. وأن الله سيباركنا طالما حافظنا علي هذه الرسالة المقدسة.
ولن ينتهي الحديث عن المدرّب العظيم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أستمريت في الكتابة سأكتب مجلدات في هذا الجانب، وأنا أريد فقط أن أشير إلى السياسة التدريبية التي أتبعها نبينا في تعليمنا القيم النبيلة، لعلنا نستفيد من هذه الحكمة العملية، ونتعلم كيف نغرسها في نفوس أطفالنا. وأتمنى أن يهتم دعاة الأمة بهذا الجانب لإجتذاب الشباب المُسلم من جديد إلى دينهم الرائع، ولتحفيزهم علي الإنتاج والعمل بكفائة وشرف كما علّم رسولنا الصحابة والتابعين الذين حققوا المجد بفضل هذه المبادئ والقيم التي ترسّخت فيهم وأصبحت جزأً منهم.
وفي الختام أدعو الله أن يهديني وكل شباب وبنات المسلمين إلى الصراط المستقيم، وأن يجعلنا فرسان نور لهذه الأمة، وسبب في نهضتها من جديد، والحمد لله رب العالمين، وكل عام وأنتم بخير وسعادة.
شكراً علي القراءة :)
بقلم
سيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية
كاتب ومحاضر في العلوم الإنسانية
فيلسوف مصري شاب صاحب رسالة تنويرية مقدسة
sayedosaber@gmail.com