الطريق الآخر لحياة أفضل الطريق الآخر لحياة أفضل
recent

آخر الأخبار

recent
الدورات التدريبية
جاري التحميل ...

الفلسفة الفينومينولوجية

الفلسفة الفينومينولوجية

بعد أن قدّم أستاذ الفلسفة بدار المعلمين العليا بتونس فتحي إنقزو للقارئ العربي مؤلفين مهمين عن الفلسفة الفينومينولوجية (الظاهراتية) هما "هوسرل واستئناف الميتافيزيقا (2000)" و"هوسرل ومعاصروه (2006)" يعود ليقدم في ذات السياق نصاً أصيلا ومركزيا في هذه الفلسفة لأول مرّة في اللغة العربية. هذا النص هو "فكرة الفينومينولوجيا" عبارة عن خمسة دروس قدمها هوسرل في جامعة غوتنجن عام 1907.علما أن أولى الترجمات العربية لهوسرل كانت سنة 1958حين قدم تيسير شيخ الأرض كتاب "تأملات ديكارتية". ثم كتاب "الفلسفة علما دقيقا2002" ترجمة محمود رجب عن المجلس الأعلى للثقافة المصري. وهذا يعني أن الكتب الرئيسة التالية لم تترجم للعربية بعد : فلسفة علم الحساب - أبحاث منطقية - محاضرات في ظاهريات الشعور الباطن بالزمن - المنطق الصوري والمتعالي - التجربة والحكم.

إدموند هوسرل (1859-1938) مؤسس فلسفة الظواهر (الفينومينولوجيا) أستاذ بجامعة جوتنجن ثم بجامعة فريبورج (ألمانيا) كان رياضيا أول الأمر وقادته الرياضيات إلى الفلسفة، وهو أمر يكثر حدوثه، استوقف نظره دقة الرياضيات ومتانتها واتفاق العقول عليها بينما العقول مختلفة على النظريات الفلسفية وعلى منهج معالجتها، فأراد أن يجد للفلسفة أساسا لا يتطرق إليه الشك ويسمح بإقامتها علما بمعنى الكلمة أي برهانيا.

لماذا هذا الكتاب؟

من المهم في البداية تبرير هذه القراءة/ الاختيار للقارئ. أي لماذا "فكرة الفينومينولوجيا" هنا؟. الأسباب كثيرة ولعل من أهمها أن هذا النص هو نص فلسفي. كتبه فيلسوف كبير ومهم. والتعامل مع النص الفلسفي الأصلي مباشرة مهم جدا رغم صعوباته ومعوقاته باعتبار أن الفائدة الأهم من التعامل مع النص الفلسفي هي اكتساب شيء من القدرة على التفلسف. باعتبار أن النص الفلسفي نص مستثير للعقل والتفكير بمنهجه وطريقته. من جهة أخرى فإن الفلسفة "الفينومينولوجية" الظاهراتية وهوسرل مؤسسها فلسفة ذات أثر هائل على مجمل فلسفات القرن العشرين. يكفي هنا أن نقول أن هيدجر كان أحد أهم تلاميذ هوسرل وأن فلاسفة ما بعد الحداثة خصوصا دريدا وريكور خصصوا الكثير من مؤلفاتهم لدراسة الفينومينولوجيا فضلا عن تأثيرها على تفكيرهم كمنهج. أيضا تأتي أهمية الفينومينولوجيا من كونها فلسفة جذرية فهي بتبسيط شديد تؤسس لمنهج للتفكير بالأشياء لا من خلال ما يقال عنها أو من خلال الأفكار السائدة عنها بل من خلال ما تظهر لنا مباشرة ومن دون حواجز. إنها تؤسس لأن ننسى كل شيء سابق لمشاهدة الظاهرة(نعلقه) ونتوجه لها مباشرة من خلال إدراكنا لها وفقط بوعينا لها. الظاهرة هنا تشمل كل شيء، إنسان، أفكار، أحداث...الخ.

ماهي الفينومينولوجيا؟

لن تكون إجابة هذا السؤال عبارة عن جملة بين قوسين فهذا مالا يتوفر حتى في مؤلفات هوسرل ذاته. بل هو ممكن باستعراض، مختصر، وجوهري لمجمل مكونات الفلسفة الفينومينولوجية باعتبارها منهجاً. هوسرل اعتاد أن يقدم فلسفته بوصفها منهجا وكان أغلب الفينومينولجيين يحترسون من تقديم هذه الفلسفة كنظرية أو نسق. ويعرف عبدالرحمن بدوي هوسرل في موسوعة الفلسفة بأنه "فيلسوف ألماني، مؤسس (منهج) الظاهريات".

يمكننا الانطلاق في مقاربة الفينومينولوجيا من الشعار الذي نادى به هوسرل في أكثر من موضع خصوصا في كتابه "أبحاث منطقية" يقول : "إننا نريد العود إلى الأشياء ذاتها. هذه العودة تعني كما في كثير من تصريحات هوسرل على أن الفينومينولوجيا هي أساسا منهج وصفي. فهي عنده لا تبدأ إلا بإنجاز موقف جذري يتم فيه تعليق التأويلات والأفكار السائدة، والعودة إلى الأشياء ذاتها لرؤيتها ووصفها. ولكن إذا كانت الفينومينولوجيا تنطلق من تعليق كل شيء والعودة إلى الأشياء ذاتها. فالسؤال المهم هنا من أين تنطلق إذن المعرفة، هل يمكن أن تنطلق من اللاشيء، من الخواء. أخذ هذا السؤال حيزا مهما في "فكرة الفينومينولوجيا". يسأل هوسرل: أي ضرب من المنهج، المنهج الفينومينولوجي؟ وكيف لعلم بالمعرفة أن يقوم إن كانت المعرفة بعامّة موضع سؤال؟. أي كيف نبدأ من الصفر؟ يجيب هوسرل أن هذا السؤال لا ينتج عن فهم صحيح للمنهج الفينومينولوجي سببه عمومية الخطاب غير المحددة. فالقول إن المعرفة عموما هي موضع سؤال لا يعني قطعا أننا ننفي بعامة وجود أي معرفة (الأمر الذي يفضي إلى شناعة). إذن بماذا نبدأ؟ نبدأ بالشعور المحض. وهو مطلق بمعنى أنه لا يحتاج في قوامه إلى أي شيء واقعي.

هذا ما يعرف في الفينومينولوجيا بمنهج الرد الذي يعتبره هوسرل منهج الفينومينولوجيا الأساسي والوحيد وهو يقوم كما يشرحه بدوي على أساس أن نبدأ بأن نضع بين أقواس (أي نعلق الحكم) العالم الطبيعي الخارجي الممتد في المكان والمتوالي في الزمان. لكن لا يقصد بهذا الوضع بين الأقواس (التعليق) ما قصده ديكارت في شكله المنهجي من الشك في حقيقة العالم الخارجي كله، بل يقصد فقط عدم استعمال الاعتقاد الطبيعي في العالم، إن معناه أن نطّرح جانبا هذا الاعتقاد أو نصرف النظر عنه، أو نجعله يكف عن العمل. ومنهج الرد يتألف من عناصر عدة. أولا: "الوضع التاريخي بين أقواس "وفيه نطرح جانبا كل النظريات والآراء الصادرة عن الحياة اليومية، أو عن العلم، أو عن ميدان العقيدة الدينية، وينبغي ألا يتكلم إلا الشيء المعطى مباشرة. ثانيا: "الوضع الوجودي بين أقواس" أي الامتناع عن كل الأحكام الوجودية وحتى تلك التي تتجلّى فيها البيّنة المطلقة مثل وجود الأنا. وبينما العنصر الأول يؤدي إلى التخلص المطلق من كل الأحكام السابقة، فإن هذا العنصر الثاني يقوم على أساس أن المعرفة الفلسفية يجب أن تكون معرفة بالماهيات، لكنها لا يعنيها الوجود الواقعي للموضوعات المتأمل فيها. ولفعاليّة منهج الرد يجب إضافة عنصرين هما "الرد الماهوي" الذي به يتم تحويل ما هو واقعي إلى ماهيّة.وعنصر "الرد المتعالي" وهو الذي به تصير المعطيات في الشعور الساذج إلى ظواهر متعالية في "الشعور المحض". وهذا الشعور المحض هو ما يبقى لبدء المعرفة كما سبق أن ذكرنا أعلاه.

لا يمكن تصنيف هوسرل على أنه واقعي ولا مثالي. بمعنى أنه لا ينطلق في تأسيسه لهذا العلم لا من الطبيعة ولا من الذات. بل أراد من الفينومينولوجيا أن تحتويهما معا وأن توفق بينهما في ميدان واحد هو الشعور حيث إن مهمة الفينومينولوجيا هي وصف عملية الإدراك فقط وتحليل الشعور لاكتشاف الماهيات الكلية الكامنة فيه والتي تقوم عليها كل معرفتنا وعلومنا وحيث تصبح الفينومينولوجيا حينئذ علما كليّا شاملا وأساسا يقينيا للعلوم الأخرى.

الفينومينولوجيا كنقد لنظريات المعرفة

إذا كانت نظرية المعرفة هي تلك السياقات المعرفية التي تشمل التنظيرات التي بحثت إمكانية البشر في التعرف وحدود تلك الإمكانية وكذلك القيمة التي تعطى لتلك المعارف الناتجة من عملية التعرف. فإن الفينومينولوجيا هي نظرية في المعرفة تتأسس على نقد معمق لنظريات المعرفة الأساسية وبالذات نظرية المعرفة عند ديكارت وهيوم وكانط. أبرز نقد لهوسرل على نظرية المعرفة عند ديكارت هو أن هذا الأخير اكتشف ولم يستكشف ! أي اكتشف الكوجيتو ولم يدرك أنه مجال واسع جدا يحتوي كل شيء، مجال حقيق بأن يستكشف ويقام بداخله. ولقد كان هذا - حسب هوسرل - هو سبب الإفقار الدلالي الذي اتسم به الكوجيتو عند ديكارت، هذا الإفقار الذي يرجع إلى الموضعة الديكارتية للكوجتو كمقدمة رياضية وتشغيله للمنهج الرياضي للاستنباط والاستنتاج منها، وهذا هو جوهر النقد الهوسرلي للمشروع الديكارتي وهو النقد الذي اختصره مؤسس الفينومنولوجيا بقوله "إن الاكتشاف والتخلي هما عند ديكارت عملية واحدة قاصدا بعبارته تلك أن ديكارت عندما اكتشف الكوجيتو كان في ذات الوقت يرحل عنه. وبناء على هذا النقد الهوسرلي لديكارت يمكن أن نمسك بفكرة أولى لكنها على قدر بالغ من الأهمية في محاولة التعريف بالفينومينولوجيا، حيث يمكن أن نختزل دلالتها بالقول إنها - في مختلف لحظاتها ومستوياتها كفلسفة ترسندنتالية - مجرد استكشاف للكوجيتو.

أما نقده لكانط فيتلخص في تعبير هوسرل التالي الوارد في كتابنا هذا ص 85"إن كانط كان مفتقدا لمفهوم الفينومينولوجيا والرد الفينومينولوجيا، غير قادر على التحرر من النزعتين النفسانية والإنسيّة. لم يتيسر له أن يبلغ القصد الأخير لتمييز هو ها هنا من الضرورة بمكان. وعندنا فالأمر لا يتعلق بمجرد أحكام صادقة صدقا ذاتيا فحسب، والتي هي محدودة في صدقها بحدود الذات التجريبية، ولا بأحكام صادقة صدقا موضوعيا، أي صادقة صدقا موضوعيا، أي صادقة، بالإضافة إلى ذات بعامة: ذلك أننا قد عطلنا الذات التجريبية، وأما التصور المتعالي، الوعي بعامة، فإنه سيأخذ عندنا في حينه معنى مختلفا تماما لا أسرار فيه".

يقول يوسف كرم عن الفينومينولوجيا في "تاريخ الفلسفة الحديثة": إن هذه الفلسفة نقد جديد للمعرفة يقصد على توخي الدقة أكثر مما فعل ديكارت ولوك وهيوم وكنط. فتأخذ على نفسها أن تصف الظواهر بكل دقة وترتبها بكل إحكام، وخصوصا المعاني الأساسية في العلوم، بغية توضيحها وتعريفها، وحينئذ تكون معرفتنا واقعة على "ماهيّات" بخصائصها الثابتة كفيلة بتأسيس علوم بمعنى الكلمة كالرياضيات.


العنوان : فكرة الفينومينولوجيا.

المؤلف : إدموند هوسرل.

ترجمة : فتحي إنقزو.

الناشر: المنظمة العربية للترجمة.

الموزع: مركز دراسات الوحدة العربية.

عن الكاتب

Unknown

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مجلتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المجلة السريع ليصلك جديد المجلة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على زر الميكروفون المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الطريق الآخر لحياة أفضل