بحثت كثيراً عن الطريق ولازلت أبحث، ولم أهتم بالوصول ولا موعد الوصول، وذلك لسبب بسيط جداً هو أن بدون الطريق لن يكون الوصول، ولأن الطريق هو الذي سيحدد ما إذا كانت الرحلة أبعد أو أقرب، فالطريق أهم من الوصول في رحلة البحث عن الذات أو رحلة النجاح أو أي رحلة تريد القيام بها. وقد شرحت أهمية الطريق في مقال سابق كان بعنوان " احلم بالطريق".
ولأن إختيار الطريق إختيار مصيري تتوقف عليه حياة الإنسان ومصيره، فهو أصعب إختيار، ولذلك هناك كثيراً من الناس قضوا حياتهم بدون أن يختاروا هذا الإختيار، وفضّلوا أن يعيشوا حياتهم بدون طريق، وليس ذلك فحسب بل بدون إختيار أيضاً. وسبق أن شرحت مفهوم الإختيار في حلقة من برنامج "خواطر في فلسفة النجاح" علي اليوتيوب وكانت بعنوان "الإختيار والإرادة".
ولكي أضعك الآن في هذا الموقف عزيزي القارئ تخيّل معي أنك تسير في وسط غابة كثيفة الأشجار ثم تشعّب طريقك إلي طريقين وأنت تعلم أن كل طريق يؤدي إلى آخر وأنه من المستحيل العودة إلي الوراء أبداً، أي طريق ستختار؟، وكم من الوقت ستظل تفكر لتتخذ القرار؟.
هناك من أضاع عمره في التفكير، وهناك من ترك مسؤلية الإختيار لغيره وقرر الإنتظار، إنتظار الآخرين ليأخدوا بيده، أو ربما إنتظار إنقضاء كل الوقت ليودع الحياة بأسرها، كل ذلك بسبب هروبهم من مجازفة الإختيار، والمشكلة هي أنهم لا يعرفون هذا السبب، فهل الجهل نعمة كما يقولون ؟.
وهناك من ينظر في كل طريق منهما متفحصاً، فيري أن ثمة أثر أقدام في أحدهم، فيقرر أن يسلكه وينطلق. تُرى إلي أين ذهب؟، وهل ربح أم خسر؟، وهل وصل أم لايزال سائراً ؟.
وهؤلاء هم أغلب الناس ياصديقي، يسيرون علي أثر أقدام الآخرين، ويفعلون كما يفعل الآخرين، وبالتأكيد لن يذهبوا إلى أبعد مما ذهب إليه الأخرين، وكيف سيكونون رابحين وهم اختاروا أن ينقادوا خلف الآخرين؟!. أليس الرابح هو من يتفوّق علي الآخرين؟. بل خسروا أنفسهم عندما أختاروا أن يكونوا منقادين.
إننا نحن البشر نميل دائماً لأن نكون "موكبيين"، نسير في موكب الآخرين، دون أن نعرف من أين وإلي أين المسير، وهذة أخطر نقطة ضعف لدينا.
وهذه الموكبية هي وسيلة من وسائل "السيطرة" و"التحكم" في الكائن البشري، ولكني لا أريد أن أخوض في هذا الجانب الآن، وما أريده فقط هو التركيز علي جانب النجاح الإنساني والإجتماعي لأنها عائق كبير جداً أمام النجاح. ولا شك أن الرابحون هم من يعرفون كيف يتغلبون عليه.
هناك نوع من الفراشات يسمى باليسارع الموكبية، لأنها تسير دائماً في موكب، أجرى عليها عالم أحياء فرنسي تجربه ليرى هل ستخرج أحدهم عن الموكب أم لا، وضعهم حول زهرية مستديرة فأخذوا يسيرون في مدار دائري حول الزهرية، ثم رفع الزهرية ووضع لهم أكلهم المفضل في نصف الدائرة، وظلوا سائرين في موكبهم، لمدة سبعة أيام متتالية، إلي أن أنهكم التعب وماتوا جوعاً وأكلهم المفضل علي بعد سنتيمترات منهم.
وكل المدخنين أو الذين كانوا مدخنين يعرفون جيداً أن قرار البدأ في التدخين لم يكن إلا انقياداً خلف الآخرين من الشلّه، وكل العلماء السلوكيين يؤكدون علي أن أغلب السلوكيات السلبية كالإدمان والتدخين والإنحرافات الأخلاقية كانت بسبب إحتكاك الشخص بآخرين لديهم ذلك السلوك السيء، وباختصار فإنهم يؤكدون علي نفس الفكرة وهي ميل الجنس البشري إلي "الموكبية".
وهذه الفكرة هي سبب كل تأخر في مجتمعاتنا سواء علي الصعيد الشخصي أو الإجتماعي أو الإنساني، لأنها تحكم علي الإبداع بالسجن المؤبد بل بالإعدام.
ولا شك أن إختيار إتباع الآخرين هو الإختيار الأسهل، ولذلك فهو مُغري لؤلائك الذين يخافون من المجازفة. وهؤلاء يخافون من المجازفة لأن أرواحهم خاوية، وأرواحهم خاوية لأنهم لا يؤمنون لا بأنفسهم ولا بوطنهم ولا بدينهم، وما الدين والوطن بالنسبة لهم إلا موكب يسيرون فيه خلف الآخرين دون أن يختاروه ويتحملوا مسؤليته عن إقتناع.
ونحن بحاجة لأن نراجع حياتنا ونجردها لنرى ما هي الأشياء التي من إختيارنا وما هي الأشياء المفروضة علينا، وهل نسير في طريقنا الخاص أم نسير في موكب الآخرين، وهل نجازف أم أننا نختار الأسهل، وهذا الجرد هو ما سيوصلنا إلي الإيمان الحقيقي، ومع الإيمان سنكتشف القوة الجبارة الكامنة فينا.
إننا بحاجة لأن نتنفس خارج الموكب، أن نتمرد علي المألوف الذي فُرض علينا منذ نشأتنا، أن نرقص علي عكس الإقاع، أن نغرّد خارج السرب، وأن نعزف إيقاعانا الخاص، ونبدع إبداعنا الخاص.
إننا بحاجة إلى الإستقلال الحقيقي الذي نشعر فيه باختلافنا وتفرّدنا ووحدانيتنا، وبأن كل واحد منّا هو واحد فقط مستقل تماماً عن غيره، لأن الله خلقنا بيديه ونفخ فينا من روحه ولأنه سبحانه أسمه الواحد.
عندما تشعر بأنك مميز عن الآخرين وتتوقف عن مقارنة نفسك بهم، وعن اللحاق بموكبهم، وعندما يكون كل شيء في حياتك من إختيارك أنت، وعندما تشعر بمسؤليتك تجاه إختيارك، فإن هذا سيشعرك بأهميتك،وسيعزز من تقديرك وإحترامك لنفسك، الذي بدوره يعزز من الصورة الذاتية لك، وستتفجر ينابيع الإبداع الكامنة بداخلك نتيجة لذلك.
ولاشك أن هذا يعني النجاح والمزيد من النجاح، والذي يؤدي إلي المزيد من أحترام وتقدير الذات وهكذا ..، إنها دائرة ولكن ليست دائرة الفراشات التي حدثتك عنها، بل دائرة النجاح والإبداع الذي يتغذى ويتنفس ويتمدد ويزداد وينمو.
إن ما يصنع الفرق دائماً هو الإختيار، وما يصنع كل الفرق هو إختيار الطريق الأقل سلوكاً.
وحدهم المجازفون الذين يفعلون ، وهم وحدهم الذين يكتشفون الأشياء الجديدة. يستمتعون باستقلاليتهم وباختلافهم عن الآخرين، برغم أنهم يشعرون من حين لآخر بالعزلة، لكنهم يعرفون أن الأسد لا يسير في قطعان كالنعاج بل يسير وحيداً، وكذلك يعرفون أن العزلة تمنحهم فرصة أكبر بكثير لإكتشاف أنفسهم.
إنك يا صديقي جئت إلى هذه الحياة وحدك وستغادرها وحدك ولا حاجة بك إلي الآخرين، فعش مستقلاً عن آرائهم ومعتقداتهم ، وليكن لك رأيك الخاص ومعتقداتك الخاصة، وارسم لوحة حياتك بإبداعك الخاص. وعندما تصل إلي مفترق الطرق فأختر الطريق الأقل سلوكاً.
شكراً علي القراءة
بقلم
السيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية
كاتب ومحاضر في العلوم الإنسانية
sayedosaber@gmail.com