النسخة الصوتية من المقال
كلنا نرغب في تغيير العالم الي الأفضل، لكن علينا أن نتذكر وأن نذكر باستمرار بأن التغيير الدائم يبدأ من الداخل الي الخارج. وهناك قصة ظريفة سمعتها ذات مرة من الفيلسوف الأمريكي وين داير وأستخدمتها كثيراً في محاضراتي التي تتناول موضوع التغيير وها انا استخدمها أيضاً في كتاباتي عن التغيير، لأني أرى أنها توضح الفرق بين التغيير الذي يبدأ من الداخل والتغيير الذي يبدأ من الخارج بطريقة بسيطة وظريفة.
هذه القصة تحكي عن رجل ضاع منه مفتاح داخل منزله وكان المنزل مظلماً بسبب إنقطاع التيار الكهربائي وكان من الضروري أن يجد صاحبنا المفتاح فأخذ يبحث عن المفتاح في الظلام ولكنه لم يجد المفتاح، وبينما كان يبحث نظر إلي الخارج من شرفة المنزل فوجد عامود الإنارة في الشارع مضيئاً فقال في نفسه "هل سأظل أبحث هنا في الظلام عن المفتاح والنور موجود هناك في الشارع ؟!" وخرج إلي الشارع وأخذ يبحث عن المفتاح تحت كشاف النور. جاءه أحد الجيران وسأله ما الذي ضاع منك؟ فقال المفتاح فأخذ يبحث معه عن المفتاح، وظلا يبحثان عن المفتاح ولكنهم لم يجدوه في النهاية، ثم سأله جاره أين بالتحديد وقع منك مفتاحك؟ فقال في المنزل، فقال له جاره وهل من المنطقي أن يضيع منك المفتاح في المنزل وتأتي لتبحث عنه هنا؟! فقال وهل من المنطقي أن أترك النور هنا لأبحث عن المفتاح في الظلام؟! .
وللحق فإننا جميعاً نفعل مثل صاحبنا هذا، نذهب لنبحث عن التغيير في الخارج لمجرد أن الداخل مظلم، برغم أن الشئ الذي نبحث عنه موجود في الداخل فقط، في داخل أنفسنا وليس في الخارج. يقول الفيلسوف الروسي ليو تولستواي: " الجميع يفكر في تغيير العالم ولكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه" ويقول المهاتما غاندي مؤكدا علي نفس المعني: "كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم".
ولا شك أن التغيير العملي يبدأ بتغيير قراراتنا وسلوكياتنا، ولكن هذة القرارات والسلوكيات ما هي إلا ثمرة طبيعية لشئ أعمق وأساسي في الشخصية هو الفلسفة الخاصة والتي تتكون من القناعات والآراء والمعتقدات. وهذه الفلسفة الخاصة هي بمثابة نظام التشغيل للإنسان أو البرنامج الذي يتحكم في تفكيره وقراراته وأفعاله. لذلك نجد أن الأديان تستهدف تغيير هذة الفلسفة الخاصة، ولننظر لحجم التغيير الذي أحدثه الدين الإسلامي علي سبيل الميثال فقد غير الجغرافيا والتاريخ علي سطح الكوكب، فكان العالم قبل الإسلام شئ وبعده أصبح شيئاً آخر.
ذلك لأن الطريقة الوحيدة الصحيحه لإصلاح العالم هي أن نبدأ بإصلاح أنفسنا عملياً من الداخل وهذا ما يجب ان نؤكد عليه باستمرار ونذكّر به دوماً لأن التغيير الذي يبدأ من الخارج لا يؤدي إلي أي شئ دائم وحقيقي. وماذا إذا وجدت الوقت علي ساعتك غير مضبوط هل ستطلب من الآخرين ضبط سعاتهم علي توقيت ساعتك؟! الإجابة طبعا بالنفي لكن الأمر الغريب حقاً هو أننا نفعل ذلك دون أن نشعر فنلقي باللوم علي الآخرين ونطالب بتغيير الآخرين، حتي أصبحت ثقافة الإتكال واللوم ثقافة سائدة في مجتمعنا.
إننا نطالب بتغيير العالم والآخرين والأشياء ولكن الحقيقة الفلسفية العميقة هي أن العالم والآخرين والأشياء أمور ثابته لا تتغير، بل نحن الذين نتغير، وإذا كان هناك ما نشكو منه فإنه موجود فينا نحن وفي نظرتنا وفلسفتنا الخاصة التي نفسر بها العالم والآخرين والأشياء. وأي تغيير لا يستهدف فلسفتنا الخاصة هو تغيير زائف.
لذلك فإن التغيير الحقيقي والمستدام هوالذي يبدأ من القناعات والآراء والإعتقادات التي تكوّن فلسفتنا الخاصة، وليس من أي شئ في الخارج. إنها عملية تبدأ من الداخل إلي الخارج وليس العكس كما يظن أكثرالناس، لأننا عندما نشير بإصبعنا إلي شئ ما نطالب بتغييرة يكون إصبع السبابا مشيراً إلي ذلك الشئ بينما ثلاثة أصابع آخرين يشيرون إلي الداخل، إلى أنفسنا. إننا نستطيع تغيير الخارج فقط إذا استطعنا تغيير قناعاتنا وفلسفتنا التي بداخل أنفسنا. إنه القانون الإلهي الذي يحكم عملية التغيير، قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ".
وهنا تبرز أهمية المصطلح الإسلامي "تزكية النفس" والذي يعني تغيير ما بداخل النفس إلي الأفضل أو إستبدال ما بداخل نفوسنا بالأفضل، قال تعالي: " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (*) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (*) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (*) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (*)" والآيات الكريمة تتحدث بشكل مباشر عن النجاح والفشل ويتضح من الآيات أن النجاح والفشل كلاهما نتيجة مباشرة لما بداخل نفس الإنسان.
وهكذا فإن تغيير المجتمع من حولنا يبدأ بتغيير أنفسنا من الداخل، وتغيير بلادنا إلي الأفضل يبدأ بتغيير شعوبنا إلي الأفضل من خلال التوعية والتنوير ونسف القناعات السلبية التي رسختها الأغاني والأفلام والدراما المبتزلة التي لا تهدف إلاّ إلي الربح فقط حتي ولو كان علي حساب تدمير القيم والقناعات الحميدة في المجتمع وإستبدالها بقيم وقناعات إيجابية تبني الإنسان الصالح.
بقلم أ/ سيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية