هناك فرق كبير بين العقل وبين المخ أو الدماغ، فالعقل جوهر وليس له وجود في داخل جسم الإنسان وإنما الموجود هو المخ أو الدماغ. وبمعنى آخر فإن العقل وظيفة يقوم بها المخ وليس هو المخ ذاته ولكن جرت العادة علي أن يشار إلي المخ علي أنه العقل.
وفي القرآن الكريم لم يُذكر العقل في صيغة إسم، ولكنه دائماً يأتي في صيغة فعل مثل "يعقلون، عقلوه، تعقلون". فالعقل فعل وليس إسم وهو وظيفة وليس جسم.
وبما أنه وظيفة فإنه لا يُمتلك إلا بالفعل وبالممارسة، فمن يمارس عملية التعقل فإنه بذلك يكون عاقلاً ومن لم يمارس عملية التعقل لا يكون عاقلاً. ولذلك نجد القرآن الكريم يحضنا في مواضع كثيرة جداً علي التفكير وممارسة عملية التعقل لكي ننتفع بهذه النعمة الكبيرة التي وهبنا الله إياها وهي نعمة العقل.
ولأن الدماغ ذكي بما يكفي فإنه دائما يختار الطريق الأسهل عندما يتعرض للإختيار، فإذا أردت أن تذهب إلى مكان ما ولديك طريقين فإن دماغك سيفضل الطريق الأسهل، فليس من الذكاء بالنسبة للدماغ إختيار الأصعب.
وعندما يجد الدماغ أنه مجبراً علي الإختيار يحاول أن يتجاوز المرحلة الصعبة في الإختيار وهي التفكير، فيبحث عن طريقة أسهل لتجاوز هذه المرحلة، وغالباً ما تكون هذه الطريقة هي إستبدال تفكيره بتفكير الآخرين، والتموكب معهم، بمعنى إتباعهم في إختياراتهم والسير في الموكب الذي يسيرون فيه دون تفكير.
ولذلك نرى أن أشياء كثيرة في حياتنا وربما أهم الأشياء نفعلها فقط لأن الآخرين يفعلوها. والقرآن الكريم يؤكد علي هذا التموكب عند الإنسان في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}سورة البقرة{.
وهذا التموكب أو الموكبية - كما نسميه - هو مشكلة ونقطة ضعف في التفكير عند الإنسان، حيث أننا نحن البشر نميل دائماً لأن نكون موكبيين، نسير في موكب خلف الآخرين، دون أن نعرف من أين وإلي أين نسير.
ونقطة الضعف هذه يستغلها السياسيين كثيراً في السيطرة والتحكم في سلوك الكائن البشري لأنها من أكبر نقاط ضعفه، وربما يتم ترسيخها في المجتمعات أيديولوجياً عن قصد، لأنه بمجرد ان تترسخ هذه الموكبية في جذور التفكير والسلوك عند الإنسان يصبح من السهل سياسته.
ومن أوضح الأمثلة علي تأثير نقطة الضعف هذه علي الإنسان أن كل المدخنين يعترفون جميعاً بأن قرار البدأ في التدخين لم يكن إلا تموكباً وانقياداً خلف الآخرين من أعضاء الشلّه. كما أن العلماء السلوكيين يؤكدون علي أن أغلب السلوكيات السلبية كالإنحرافات الأخلاقية ومن أشهرها الإدمان والتدخين، بسبب الإحتكاك بالآخرين الذين لديهم نفس السلوك.
وهذه الموكبية في التفكير لا تؤثر فقط علي السلوك وإنما علي الآراء والمعتقدات أيضاً وهي جذور كل سلوك يصدر من الإنسان، لأن السلوك ينتج عن آراء الإنسان ومعتقداته. ولا شك أن أقوى هذه المواكب هو موكب الأسرة والآباء، ويتضح هذا بجلاء في القرآن الكريم، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) (سورة المائدة).
ان هذا التموكب الذي هو من خصائص الدماغ عند الإنسان له بالتأكيد إيجابيات وسلبيات، ولكن سلبياته خطيره ومن أسوأها أنه يمنع التفكير المستقل ويلغي العقل ويمنع الإبداع.
إننا يجب أن ننتبه إلي هذه الخاصية التي تجعل من الإنسان كائناً موكبياً يتعلم بالمحاكاة وتقليد الآخرين. فبدلاً من أن نقدم له النماذج السلبية في الفن والتربية والثقافة علينا أن نقدم له القدوة الحسنة والمثل العليا.
بقلم أ/ سيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية