كل إنسان مختلف وفريد من نوعه، ولكل إنسان حياة شخصية وخبرة ذاتية تجعله إنساناً مختلفاً وفريداً عن غيره، أي وحداً لا يتكرر وليس له شبيه. ويقول دكتور مصطفي محمود عن هذا التفرّد الذي يتميز به كل إنسان أنه من تجليات إسم الله "الواحد"، أي أن الله الواحد المطلق أفاض علينا بوحدانيته وبتفرده فجعل كل إنسان واحداً لا يشبهه أحد.
وكل إنسان لدية فلسفته الخاصة أيضاً التي يفسر بها ذاته والآخرين والعالم الذي يعيش فيه تفسيراً فريداً أيضاً. وإذا أردنا أن نبرهن علي ذلك بطريقة عملية وأحضرنا مائة شخص علي سبيل الميثال وطلبنا منهم النظر إلي شئ واحداً محدداً ثم إغماض أعينهم ومحاولة تفسير ماذا يعني هذا الشئ بالنسبة لكل واحدٍ منهم في عقله، فإننا سنجد أن لدينا مائة تفسير مختلف لهذا الشئ الواحد. والسبب في ذلك يرجع إلي الإرتباطات الذهنية التي تربط هذا الشئ بأشياء أخري في الخبرة السابقة لكل منهم والتي تتسم بالسمة الشخصية.
وهكذا فإن الخبرة الشخصية تتكون نتيجة الإرتباطات الذهنية المستمرة الناتجة عما نمر به من أحداث ومواقف وما نسمعه من أصوات وما نراه من مشاهد وما نتخيلة في أذهاننا. وكذلك فلسفتنا الخاصة تكونت من المعنى واليقين المتولد من خبرتنا الشخصية .
هذا يعني أننا نري العالم رؤيةً شخصية مغايرة لرؤية أي إنسان آخر، وفقاً لفلسفتنا الخاصة وخبرتنا الشخصية البحتة. ويعني هذا أيضاً أنه لا وجود للحقيقة المطلقة وأن الحقيقة نسبية وكل ما نعرفه عن الحقيقة هو وجهات نظر شخصية. يقول جبران خليل جبران في كتابه "النبي" : "لا تقل عَرفت الحقيقة ولكن قل عَرفت بعض الحقيقة" .
وفلسفتنا الخاصة تلك هي الوسيلة الوحيدة التي نفسر بها الحياة، وهي خريطتنا التي تعبّر عن العالم الذي نعيش فيه والتي تقودنا في رحلة الحياة ونسير وفقا لها.
وقبل أكثر من ثمانون عاماً مضت كتب فيلسوف الهيرمنيوطيقا ومؤسس علم دلالات الألفاظ "الفريد كورزنسكي" أن "الخريطة ليست هي الأرض التي تمثلها" ويقصد بالخريطة رؤيتنا الخاصة للأشياء، فالخريطة ما هي إلا رؤيتنا عن الأرض أو مجرد محاولة لوصف الأرض وليست هي الأرض بذاتها. وأصبحت هذه العبارة أساساً فلسفياً لعلم النفس الحديث وعلم البرمجة اللغوية العصبية.
ولنأخذ ميثالاً عملياً علي فهم هذه الحقيقة، أنظر جيداً صديقي القارئ إلي الصورة التالية..
كم عمر هذه السيدة ؟
قبل أن أعرف إجابتك دعني أذكّرك أن إجابتك ليست هي الحقيقة ولكنها بعض الحقيقة. ومهما كانت إجابتك فإنها تختلف عن إجابة الكثيرين من الأشخاص الآخرين، وليس هذا معناه أن أحدكما مخطأ بل معناه أن كل منكما عَرف جانباً واحداً من الجوانب المتعددة للحقيقة.
عندما عرضت هذه الصورة في إحدي محاضراتي وسألت إحدى الفتيات عن عمر السيدة التي في الصورة قالت أن عمرها فوق الستين، وافقها بعض الحاضرين في الرأي واختلف معها البعض الآخر، فاخترت شاباً من المختلفين معها في إجابتها وسألته عن عمر السيدة في الصورة فقال أنها فتاة جميلة في العشرين من عمرها. وشرح كل منهما وجهة نظره فكانت أذن الفتاة العشرينية هي عين السيدة العجوزة وفم السيدة العجوزة هو عقد في رقبة الفتاة العشرينية. وبرهنت لهم أن الحقيقة نسبية وذات وجوه متعددة.
ثم انتقلت إلى الجزأ التالي فسألت الفتاة ماذا سيكون سلوكك عندما تجدين هذه السيدة ذات الستون عاماً تقف علي جانب الطريق تريد العبور؟ فقالت: سأساعدها طبعاً في عبور الطريق. ثم إلتفت الي الشاب فسألته ماذا سيكون سلوكك إذا وجدت هذة الفتاة ذات العشرين عاماً تقف علي جانب الطريق تريد العبور؟ فقال: لن أفعل شيئاً فهي تستطيع العبور وحدها. وبرهنت لهم أيضاً أن سلوكنا ناتج عن وجهات نظرنا وفلسفتنا الخاصة وأن التغيير يبدأ من التفكير.
وأما عن الذين يتجادلون ويتناحرون، وكل منهم يزّعُم أنه الفريق الوحيد الذي يعرف الحقيقة، ويستندون إلي منطق القرن العاشر بينما هم يعيشون في القرن الواحد والعشرين منغلقين عن العلوم الحديثة، فإنهم لن يفوزون أبداً في معاركهم، لأنهم مثل الذي يحارب بالسيف في زمن المدافع الرشاشة ذات الطلقات السريعة.
بقلم أ/ سيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية