برغم الوضوح الذي لا يحتمل التأويل في الآيات القرآنية التي تبين مفهوم الظن، إلا أن هناك أمر ضمني يجب أن نتوقف عنده طويلاً تشير إليه الآية "اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ"، ألا وهو اللطف في الأمر الإلهي "اجْتَنِبُوا"، وكذلك اللطف في قوله تعالى " كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ"، فالنهي عن الظن ليس نهياً كاملاً، كما أن المنهي عنه وهو الظن نفسه ليس كاملاً أيضاً، وهذا يشير إلى جانب خطير من جوانب الضعف عند الإنسان، وهو أنه لا يستطيع ان يكف نهائياً عن الظن، ولا يستطيع ان يمنع عقله عن ذلك، بل إن إجتناب الكثير من الظن وليس كله يحتاج منه إلى مشقه ومجاهده.
فالإنسان جُبل علي ذلك، علي أن يطلق أحكاماً مسبقة علي كل مجهول حوله لكي يضع للشكوك التي تكدّر روحه حداً، ولديه ميل فطري إلى قولبة الأمور ووضع كل شيء تحت تصنيف معين، وهذا التصرف غير ناتج عن ذكاء الدماغ كما كان يظن البعض، بل عن كسله. حيث يُريد الدماغ أن يرتاح من التفكير، ليس لعدم قدرته عليه بل لأنه يفضّل الأسهل، فالأسهل من التفكير هو وضع حداً له بالظن وإصدار الحكم بدون تحقق، والأسهل مغري للعقل[1]، وعلماء العقل يؤكدون علي ذلك، علي أن العقل دائماً يفضّل الإختيار الأسهل[2]، ولا شك ان الأعلم بالإنسان من الإنسان هو صانعه سبحانه وتعالى، "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)[3]".
وهذه من أكبر إشكاليات العقل عند الإنسان، أن العقل يحاول الهروب من عملية التفكير دائماً، وربما لهذا السبب نجد في القرآن ما يشبه الإلحاح علي القيام بهذه العملية، حيث تتكرر فيه بكثره عبارات، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، ولا شك أن هذه العبارات تشير إلى أن الإنسان يمتلك القدرة علي التفكير بالفطرة ولكنه غالباً لا يستخدمها، ولذلك فإن الله الذي أعطاه هذه المقدره يأمره باستخدامها حتي تتحقق الغاية من إعطائها له، وجدير بالذكر هنا ان نشير إلي كتاب (التفكير فريضة إسلامية) للأديب والمفكر المصري عباس العقاد الذي يثبت فيه أن التفكير فريضة إسلامية.
وفي هذا الإطار يجب أن نفرّق بين الذين يفكرون والذين يحدث لهم التفكير بدون قصد منهم، حيث ان الغرائز الإنسانية تجبر الإنسان علي التفكير من أجل إشباعها، ومن ناحية أخرى يجبره المجتمع أيضاً علي التفكير من أجل تنظيم فوضى هذه الغرائز، ولا شك أن هذا النوع من التفكير يكون بدون قصد من الإنسان كما أنه لا يعد تفكيراً إذ ان العقل يكون مجرد تابع وخادم للغرائز.
ويقول سبحانه وتعالى: " وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)[4]"، ولا شك أن أكثرهم لا يعقلون لأن أكثرهم لا يفكرون، اذ ان التفكير هو جوهر عملية التعقل. وهذا يعنى أن أكثر الناس لا يفكرون بإرادتهم بل يحدث لهم التفكير عن غير قصد، وهو كما أوضحنا لا يعد تفكيراً. ولعل هذا ما جعل الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" يقول: "إني لأجرؤ على التصريح بأن حالة التأمل مضادة للطبيعة، وأن الإنسان المفكر هو حيوان فاسد"[5]، وكذلك أيضاً يقول الحكيم الصيني "كونفوشيوس": "لا يختلف الإنسان عن الحيوان إلا قليل، ومعظم الناس يطرحون هذا الشيء القليل"[6]، والحقيقة أنه ليس شيئاً قليلاً ذلك الذي يفرّق بين عالم الإنسان وعالم الحيوان، كما أن هذا الشيء ليس العقل فقط إذ ان مع العقل يأتي الكثير من النعم التي أنعم الله بها علي العاقلون، وما العقل إلا مفتاح لعالم آخر تتحقق فيه الغاية من وجود الإنسان كإنسان، ولا شك أن هذا العالم أكثر جمالاً وسحراً بكثير.
وكما يؤكد القرآن في الآية السابقة على أن أكثر الناس لا يعقلون نجده يؤكد في مواضع أخرى علي أن أكثر أهل الأرض هم الظنيون الذين يتبعون الظن، قال تعالى: " وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)[7]"، وكذلك في قوله: " وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)[8] " وبالربط بين الأكثريتين نجد أن الظن شكل من أشكال هذا الغياب العقلي. وبالتأكيد ليس هو الشكل الوحيد حيث أن هناك أشكال أخرى متعددة.
بقلم
أ/ سيد صابر
أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية
[1] جرت العادة علي ان يشار للمخ او الدماغ بكلمة العقل لذلك سيتم استخدام كلمة العقل للإشارة إليهما وسيتم بيان الفرق بينهما لاحقاً
[2] تم إثبات هذه الحقيقة بالتجارب العملية في إحدى حلقات البرنامج الوثائقي ألعاب العقل – من انتاج قناة ناشينال جيوجرافيك، والتي أشير فيها إلي عدد من الدراسات العلمية.
[3] الملك 14
[4] العنكبوت 63
[5] مباهج الفلسفة/ ديورانت/ ص51.
[6] مباهج الفلسفة/ ديورانت/ ص56 – 57.
[7] الأنعام 116
[8] يونس 36