تأسيس الاقتناع القضائي والمحاكمة الجنائية العادلة
الدكتور عادل عامر
من المقرر أن القاضي الجنائي له سلطة قبول أي دليل يحقق لديه الاقتناع وهو كذلك الذي يقدر قيمة الدليل وقوته في الإثبات دون أن يقيد في ذلك حد ما وتمر عملية الاقتناع وتكوين العقيدة بعدة مراحل حيث يستمع القاضي إلي طرفي الخصومة وتطرح أمامه عديد من الوقائع منها الأدلة أو الدلائل علي ثبوت أو نفي الجريمة
وقد يجري بنفسه تحقيقا للوقوف علي ما يراه لازما في كشف الحقيقة وهذه هي المرحلة الأولي التي تفتح بها العملية القضائية ومنها يدرك القاضي ما يطرح امامة ما يتلقاه من أطراف الدعوي وتتطور العملية القضائية فيبدأ القاضي يفسر ما يتلقاه وما أدركه من وقائع فيسترجع نصوص القانون التي يرشحها للانطباق علي ما تلقاه من وقائع
فيسترجع نصوص ليقوم بأهم واخطر حلقات العملية القضائية وهي المطابقة بين الواقعة المادية التي حملها الخصوم إلية والواقعة النموذجية الواردة في نص من النصوص التي استرجعتها أو تذكرها بهدف الوقوف علي ما إذا كانت هذه الوقائع المادية تتطابق مع واقعة نموذجية أي تلك الوقائع المنصوص عليها في قانون العقوبات من عدمه وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل العملية القضائية الخاصة بتكوين عقيدة واقتناع القاضي
وأخيرا يتبلور أو يتكون ( يقين القاضي ) أو جوهر قراره ومضمونه وقد يصل في هذه الحالة أليس احد فرضين :-
الجزم بإدانة المتهم الثاني :- الجزم ببراءته ويكون ذلك في احد حالتين :-
الحالة الأولي تتعلق بعدم وجود دليل إدانة مطلقا والحالة الثانية تتصل بالشك في دليل أو أدلة الإدانة القائة ضده وبناء علي ذلك يعلن القاضي راية في الحكم الذي يصدره بشأن الواقعة لاشك أن القاضي الجنائي ملزم قانونا بالفصل في موضوع الدعوي التي ينظرها سواء بالإدانة أو البراءة وهو في سبيل الوفاء
بهذا الالتزام علي الوجه الأكمل يقوم بعدة عمليات ذهنية من اجل تكوين اقتناعه بصدد ثبوت الوقائع المادية إلي المتهم المقدم للمحاكمة وثبوت مسئوليته الجنائية عنها فيقضي بالإدانة أو عدم ثبوتها بالبراءة
ومن المقرر أن القاضي حر في تكوين عقيدته في الدعوي من أي دليل يجده في أوراقها طالما أن المشرع لم يفرض عليه دليلا بذاته ( المادة 302 إجراءات جنائية )
والاقتناع القضائي يقوم علي عنصرين هما :-
- المنهج أي كيفية الاقتناع 2- المضمون ويقصد به النتيجة التي خلص إليها القاضي وهذا هو ما نحاول التركيز علية في هذا المقال باعتبار أن عملية الاقتناع في جوهرها إنما هي عملية ذهنية تجري علي مراحل متعددة بعضها مركب ومتداخل وكل مرحلة يعتمد علي مصادر معينة تشترك في تكوين مضمون الاقتناع
- ماهية الاقتناع القضائي :- لا يخفي أن العملية القضائية التي يجريها القاضي الجنائي إنما غايتها النهائية التوصل إلي ( الحقيقة الواقعية)
فكل نشاط أو جهد ذهني يبذله القاضي خلال إجراء العملية القضائية يبتغي من ورائه التوصل إلي الحقيقة الواقعية أي الوقوف علي حقيقة الوقائع كما حدثت في الواقع أو العالم الخارجي لا كما يصورها الخصوم ولا يمكن أن تظهر الحقيقة الواقعية إلا بعد البحث عنها وثبوتها بالأدلة فإذا وصل القاضي إلي حالة ذهنية استجمع فيها كافة عناصر وملامح الحقيقة الواقعية
واستقرت هذه العناصر والملامح في وجدانه وارتاح ضميره للصورة الذهنية التي تكونت واستقرت لدية عن تلك الحقيقة فهنا يمكنا القول أن القاضي وصل إلي حالة الاقتناع . ثم ننتقل إلي المحاكمة الجنائية العادلة :-
العمل القضائي بصفة عامة والعملية القضائية بصفة خاصة عمل عملي مقنن بمعني أن العمل الوحيد من بين الأعمال التي يؤديها أو يقوم بها البشر الذي تحكمه قواعد عملية محددة سلفا في نصوص مكتوبة
وهذه القواعد هي القانون المكتوب فالمحاكمة الجنائية العادلة بأنها مقاضاة المتهم بشأن الاتهام الجنائي الموجه إلية أمام محكمة محايدة
وطبقا لإجراءات قانونية يتاح له من خلالها حق الدفاع عن نفسه مع تمكينه من مراجعة الحكم الصادر ضده من قبل قضاء أكثر علوا من المحكمة التي حكمت علية وباعتبار ذلك حقا طبيعيا للمتهم يقابل حق الدولة في استفاء العقاب
فالمتهم له حق تجاه الدولة مؤداه أن يحاكم محاكمة عادلة أي أمام محكمة محايدة وبأتباع إجراءات مشروعة تراعي فيها كافة الضمانات التي يقررها قانون الدولة وهذا الحق المقرر للمتهم يلقي علي عاتق الدولة التزاما بأن تهيئ له سبل تلك المحاكمة العادلة وتوفر له الجهة الكفيلة بمفرداته
* والدولة لها حق تتبع المتهم الذي ارتكب الجريمة وتوقيع العقاب علية إذا ثبت إدانته ومسئوليته الجنائية عن الجريمة باعتبار أن المتهم قد اعتدي علي احدي المصالح التي يحميها القانون
ولذلك فطالما ثبتت مسئوليته عن الجريمة فانة يلتزم بالخضوع لأمر الدولة الصادر ضده بتحمل الجزاء المقرر لهذه الجريمة والممثل في الحكم الصادر بالإدانة ولا يخفي أن الذي يكسب الاقتناع سمته القانونية هو كونه وليد إجراءات جنائية قانونية
ومشروعة وتكون الإجراءات الجنائية كذلك عندما يتسم مسلك القاضي الجنائي خلال إجراء العملية القضائية بالالتزام بأحكام القانون أي لا يخرج عن الخط الذي رسمه القانون
أما إذا جهل أو تجاهل قاعدة قانونية سواء كانت قاعدة شكلية أو موضوعية من القواعد المنظمة لجانب من جوانب العملية القضائية أو عندما يؤول أو يفسر هذه القواعد تأويلا أو تفسير غير حقيقي فان هذا الجهل أو التجاهل من ناحية أو الخطأ في التأويل أو التفسير من ناحية أخري ينعكس بصدق علي الاقتناع الذي حصله لأنه ثمرة أو محصلة الخطوات التي خطاها هو نتيجة العمليات التي أجرها بطريقة اتسمت بالخطأ أو الفساد
ومؤدي ذلك إن هذه السمة تتصل اتصالا وثيقا بالمنهج القضائي في الاقتناع أو بكيفية تحصيله وتحديد ملامحه وان الوقائع المادية الثابتة بملف القضية وهي الوقائع التي تشكل كيان الجريمة المرتكبة إنما هي تقوم بدور توجيه القاضي وإرشاده إلي تحديد الأركان والعناصر والشروط
وكل ما يتعلق ببيان الواقعة النموذجية سواء كانت الواقعة الموضوعية أو الواقعة الإجرائية ذلك أن الواقعة المادية هي التي تستثير ذهن القاضي وتجعله ينشط ليتذكر القواعد القانونية التي يرشحها بصفة مبدئية لكي يطبقها علي الواقعة المادية
وإلا رشح غيرها واجري عملية المطابقة مرة أخري حتى يتحقق التطابق التام بين الواقعتين المادية الموجودة في الأوراق والنموذجية الموجودة في القاعدة القانونية وهذا ما يدعونا لان نقرر أن هناك ارتباطا وثيقا وحتميا بين تفسير الواقعة المادية المعروضة علي القاضي الجنائي والثابتة بملف القضية
من ناحية وتفسر الواقعة النموذجية الواردة في صيغة النص التشريعي سواء كان نصا موضوعيا أو نصا إجرائيا من ناحية أخري
وهذا الارتباط أساسه أن الخطأ في تفسير أيهما يؤدي بالضرورة وبطريق اللزوم العقلي إلي الخطأ في نتيجة عملية المطابقة بين الواقعتين ويكون ثمرة هذا الخطأ خطأ أخير في إعلان حكم القانون سواء الموضوعي أو الإجرائي بما يؤدي إلي الخطأ في تقرير الحكم القانوني الصحيح للنزاع